القلم في واشنطن والحجّة في الرباط
بدأت مشكلتنا مع استرجاع الصحراء بعد فترة الحمايتين الفرنسية والإسبانية، بأخطاء في التدبير الداخلي، سواء في علاقة دولة الاستقلال مع جيش التحرير وبقاياه في الجنوب، أو في استيعاب وتأطير شباب صحراوي جاء إلى الرباط مفعما بالحماس لطلب الدعم والمساندة ضد الاستعمار.
ثم سرعان ما تحوّل الملف إلى مشكلة خارجية وظّفها القريب قبل البعيد في محاصرتنا وكبح تقدّمنا. ولا يحق لنا اليوم أن نكرّر الأخطاء ذاتها لأن في ثقافتنا المؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين.
سنسبّب، في حال طلبنا من “الداخل” أن يتبع ويبارك ويصمت، لأننا ننجح في الخارج، مشاكل داخلية هذه المرة.
وأول مدخل لجعل المجتمع المغربي ينخرط إيجابيا في دينامية الحل مع الخارج، هو تملّك القضية وفهم تطوّراتها الأساسية. وأكثر ما يستدعي الفهم والاستيعاب في المرحلة الحالية، هو الدور الأمريكي، المفيد والإيجابي، لكنه ينبغي أن يُفهم بالشكل الذي يجعل التفاعل مع التطورات بناء وايجابيا.
عدت هذه الأيام إلى مراجعة الكثير من الوثائق المتعلقة بقضية الصحراء وكان من بينها عمل بحثي قمت به في إطار جامعي حول وثائق الأرشيف السري للوكالات الاستخباراتية الأمريكية، والتي رفعت عنها السرية، جزئيا، في السنوات الأخيرة.
وأثارني كيف أن واحدة من الخلاصات الأساسية التي استنتجتها من تلك الوثائق، تقول حرفيا:
“إن من بين ما يستحضره ذهن صانع القرار السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يقوم بتحليل وتقييم الملفات والأحداث، هو الطبيعة الداخلية للأنظمة السياسية. وتصبح القدرة على الاستفادة من الوضع المهيمن للولايات المتحدة الامريكية على الصعيد الدولي، مرتبطة بالتقدم في مسار البناء الديمقراطي وإشراك القوى السياسية والشعبية والمدنية الحية في النقاش العمومي وإنتاج الأفكار والمواقف والتعبير عن نبض المجتمع.
ذلك أن التملك المجتمعي للقضايا يزيد من حرص صانع القرار السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية على مراعاة مصالح شركائه.
فقيمة المواقف والمطالب الرسمية تصبح أكبر في نظر المساهمين في صناعة القرار الأمريكي، حين تكون محمولة بأدوات ديمقراطية، باعتبارها مصلحة وطنية وليست مجرد دفاع عن مصالح نظام سياسي معين”.
نعم، الخيار الديمقراطي بات ضروريا داخليا وخارجيا. في الواجهة الداخلية يحمي تماسكنا ويعطي معني إيجابيا لمقترح الحكم الذاتي، وفي الجبهة الخارجية يعطي انطباعا جدّيا عن سلوكنا واقتراحاتنا.
لا أقول ذلك لكي أعود إلى فكرة الارتباط العضوي بين نجاح الحكم الذاتي “الحقيقي” ووجود ديمقراطية “حقيقية”، بل أقصد التنبيه إلى أهمية الفهم الصحيح للدور الأمريكي في هذا الملف. دور كان دائما، ومنذ بداية الحرب، محدّدا وحاسما، بل إنه كان حيويا حتى في نجاح تنظيم المسيرة الخضراء، ولنا في الأرشيف الدبلوماسي الأمريكي أكثر من دليل، عندما كانت واشنطن تضغط على مدريد وتقول لها إن نظام الحسن الثاني شريك حيوي للغرب، وقضية الصحراء تنطوي على أهمية وجودية بالنسبة لهذا النظام.
اليوم أعتقد أن هذا الدور الأمريكي، الذي لا حاجة بنا لتفسير كيف كان حاسما في التحول الذي جرى في السنوات القليلة الماضية، يستحق من المجتمع الأكاديمي و”قادة الرأي”، الكثير من الجهد لتحقيق قدر من الفهم الجماعي لحقيقته وطبيعته، كي لا نسقط في أساطير تربط كل ما وقع ب”الترامبية” أو التطبيع مع إسرائيل…
مثل هذه الأساطير، وعلاوة عن كونها تزيّف الواقع وتخلق فهما مغشوشا، تسيء إلى العمل الكبير الذي قام به المغرب، بصبر كبير ومنذ عقود. ويكفي أن أعيد التذكير بأن الأرشيف السري (سابقا) للوكالات الاستخباراتية والمؤسسات التي تنتج النصيحة وتوجّه صانع القرار الأمريكي، تحدّثت بشكل صريح عن حل يضمن بقاء الصحراء تحت السيادة المغربية منذ 1987 على الأقل.
ودليل عدم ارتباط الاختراق الكبير الذي حققه المغرب في ملف وحدته الترابية بالصفقة الثلاثية مع كل من ترامب وإسرائيل في نهاية 2020، هو أن الاعتراف الأمريكي لم يتزحزح عن مكانه رغم الخروج الأليم لترامب من البيت الأبيض بداية 2021، وقضاء الديمقراطيين الذين كان واضحا أنهم لا يحملون المغرب كثيرا في قلوبهم “اليسارية”، أربع سنوات كاملة دون أن يغيّروا وضعية هذا الاعتراف.
الدور الأمريكي في ملف الصحراء ينبغي أن يُفهم ويُقرأ من زوايا عديدة، لكن أهمها وأكثرها دلالة في تقديري، هي زاوية العلاقة مع أوربا. واشنطن كانت لها منذ البداية رؤية مختلفة عن تقديرات الأوربيين لهذا الملف، وكانت تنطلق في ذلك من تقدير مختلف لمسألة المصالح.
وبما أن المصالح الأمريكية في المنطقة ظلت تعتبر وفقا للوثائق الاستراتيجية، هامشية، فقد حرصت واشنطن على تدبير موقفها في هذا النزاع بشكل يحمي مصالحها المستقبلية، ويراعي مصالح شركائها الأوربيين.
واليوم لا يمكن فهم ما يجري بدون استحضار التحوّل الجيوسياسي الكبير الذي حصل بين ضفتي الأطلسي، وشروع واشنطن في قطع الحبل السري مع أوربا، واضطرار هذه الأخيرة للانسحاب من كثير من المواقع التي ظلت تشغلها كإرث عن الحقبة الاستعمارية، وإخلائها لفائدة “الأخ الأكبر” الأمريكي الذي بات يمسك مباشرة بزمام الأمور في صناعة التوازنات الدولية الجديدة.
فما الذي تريده واشنطن؟
إنها تريد شيئا واضحا ومباشرا: فضاء أقلّ توتّرا غرب المتوسّط، وممرّات آمنة للطاقة واللوجستيك، وشريك قادر على حمل العبء. لذلك تدفع نحو مسار سياسي سقفه الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وتُبقي المظلّة الأممية لضبط الإيقاع الدولي، وتدير التوتر المغربي–الجزائري بمنطق خفض التصعيد لا فرض مصالحة قسرية.
لماذا علينا استثمار اللحظة؟
لأن القاموس الأممي لم يتغيّر، لكن طريقة قراءته تبدّلت. أوروبا كانت مرجع الجمود وإدارة الفواصل. أمريكا اليوم مرجع تثبيت ما يتقدّم. ليس مجاملة للمغرب، بل لتوافق مصالح.
والخلاصة بسيطة ومباشرة: اليد التي تضبط الإيقاع اليوم بلا منازع أمريكية، والملف يُقرأ بعقل المصالح لا بعين الشعارات. أوروبا أدارت جمودا طويلا وانتهت “مطرودة” من الساحل كما من شمال إفريقيا. وواشنطن تثبّت ما يُنجز ويتقدّم. وبداية جملة الختام من التملّك الداخلي والتشاركية “الحقيقية” وتجاوز منطق الأساطير.