الفلسفة المدرسية: تربية على التفكير من أجل مواطن الغد
تُعدّ الفلسفة من بين المواد التي تثير كثيرًا من الجدل في الوعي المجتمعي المغربي، إذ ينظر إليها البعض على أنها خطاب غامض أو ترف ذهني لا طائل منه. غير أن هذه الصورة النمطية تخفي وراءها حقيقة أعمق؛ فالفلسفة، في سياقها المدرسي، ليست مجالًا للتجريد الأكاديمي بقدر ما هي تربية على التفكير، وتمرين على الحرية، وتكوين لمواطن الغد القادر على فهم ذاته ومجتمعه والعالم من حوله.
تختلف الفلسفة كمادة مدرسية تُدرَّس في السلك الثانوي التأهيلي عن الفلسفة كمعرفة أكاديمية يختص بها الباحثون والدارسون في الجامعات ومراكز البحث. فالأولى تهدف إلى تمكين المتعلمين من القدرات الفكرية والمنهجية التي تجعلهم مواطنين فاعلين وواعين، بينما الثانية تظل مجالًا علميًا متخصصًا يتناول قضايا النظر والتأمل في أفق المعرفة الفلسفية العالِمة. إنها اختلافات بيداغوجية ومنهجية، تشبه ما بين أي تخصص في بعده التربوي وما في بعده البحثي.
نسعى في هذا المقال إلى التعريف بما تقدمه الفلسفة كمادة مدرسية، رغم أن الوعي العام لا يميّز غالبًا بين الفلسفة الأكاديمية والفلسفة التعليمية. فجزء كبير من المجتمع المغربي ما يزال يحمل أحكامًا جاهزة وسلبية حول هذه المادة، بسبب جهلهم بكونها أحد المصادر الأساسية لبناء الممارسات الأخلاقية النبيلة التي يعيشها الأفراد يوميًا في حياتهم العامة والخاصة.
حين يتخذ المواطن موقفًا نقديًا شجاعًا، ويرفض أن يُستَعمل كوسيلة لتحقيق مصلحة سياسية، فإنه يجسد روح الفلسفة التي تعلّمه أن الإنسان غاية في ذاته، لا وسيلة في يد غيره. فالدولة، كما يؤمن بذلك هذا المواطن الفيلسوف في سلوكه، وجدت لتخدم الصالح العام والسعادة المشتركة، مقابل خضوع الجميع لقوانينها بعدل ومساواة.
وبالمنطق نفسه، يواجه الفرد محاولات الاستغلال الاقتصادي، فيرفض أن يُختزل في مجرد آلة إنتاج داخل مصنع أو شركة، لأن كرامته الإنسانية تَسمو على كل ربح مادي. إنه موقف فلسفي بامتياز، يعبّر عن وعي نقدي يرفض التشييء والاستلاب ويبحث عن استعادة إنسانيته في وجه التوحش الرأسمالي.
وبذات الجرأة الأخلاقية، يتعامل المواطن المتفلسف مع الآخر المختلف عنه في الدين أو اللون أو اللغة بروح التسامح والانفتاح، مدركًا أن قبول الاختلاف والتعايش المدني من جوهر الكرامة الإنسانية. إنه إنسان يسائل الخطاب الإعلامي والسياسي، يحلّل مضامينه ويشكك في مقولاته، ويحوّل النقاش العمومي إلى فضاء حي للفكر والنقد، حيث تُقارع الحجة بالحجة وتُستعاد مكانة العقل أمام إغراءات التضليل الإعلامي.
ولا يقف وعيه عند حدود الحاضر، بل يمتد إلى التاريخ، إذ يسائل الروايات والأساطير ويعيد بناء الذاكرة الجماعية على أسس علمية ووثائقية، ليمنح أحفاده مستقبلًا يقوم على الحقيقة والمعرفة لا على الأوهام. وفي رحلته الفكرية تلك، يميل إلى الاعتدال في تدينه، ملتزمًا بأخلاق الإسلام السمحة ومستنيرًا بفكر التصوف وعلم الكلام، مؤمنًا بمشروعية إمارة المؤمنين وبإمكان التوفيق بين التراث والحداثة في إطار دولة ديمقراطية راشدة.
هذا الإنسان الذي يستلهم السعادة من العقل والانسجام مع ذاته والطبيعة، ليس بطلًا من يوتوبيا فلسفية، بل هو شخص حقيقي نلقاه في حياتنا اليومية: الطبيب، والمهندس، والأستاذ، والحرفي، والفنان، والإمام، ورجل السلطة… جميعهم أبناء المدرسة المغربية، وقد تشرّبوا في دروس الفلسفة قيم التفكير النقدي، والحرية، والمسؤولية، والكرامة.
إن درس الفلسفة في المدرسة لا يهدف إلى صناعة فلاسفة أكاديميين بالضرورة، بل إلى تكوين مواطنين أحرار في تفكيرهم، مسؤولين في مواقفهم، قادرين على الحوار والإبداع. كما أن الهدف ليس حفظ مقولات الفلاسفة، بل الاستفادة منها كوسائط لتنمية الوعي المفهومي وبناء الرأي الشخصي.
ولا يكتمل نجاح الدرس الفلسفي إلا بتكامله مع باقي المواد الدراسية التي تشاركه الغاية التربوية نفسها. فالفلسفة تلتقي مع الرياضيات في التجريد، ومع الفيزياء في نقد أسس المعرفة، ومع اللغة العربية واللغات الأجنبية في مهارة التعبير والحجاج، ومع التاريخ والتربية الإسلامية في خدمة القيم الإنسانية المشتركة.
فالمدرسة، في النهاية، ليست فقط فضاءً لتلقين المعارف، بل مختبر لصناعة العقول وتحرير الإنسان من الجهل والانغلاق.
إن الفلسفة المدرسية ليست طلاسم لغوية ولا ترفًا فكريًا، بل هي تدريب على العيش المشترك، وعلى ممارسة التفكير الحر والمسؤول.
وحين نفهمها بهذا المعنى، ندرك أن كل درس فلسفي هو بذرة وعي تُزرع في تلميذ اليوم ليكون مواطن الغد، القادر على بناء مغربٍ أكثر عدلًا وإنسانية.
*السالك التروزي ، أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي تخصص الفلسفة، مديرية بوجدور، اكاديمية العيون الساقية الحمراء .