الفقر يزحف على الطبقة المتوسطة في المغرب
عبد الحفيظ السريتي
لا تبدو الطبقة المتوسطة في المغرب قادرة على الصمود والحفاظ على مركزها، أمام هول التغيرات والأزمات التي تراكمت بسبب السياسات العمومية التي فشلت في إيجاد حلول جذرية لظاهرة الجفاف التي ضربت البلاد بقوة لسنوات متتالية وبسبب ضعف وتيرة النمو الذي ظل بعيدا عن الاستجابة لتخفيف الأعباء عن الأسر المغربية التي ضاقت ذرعا بالغلاء الفاحش للمواد الأساسية. ورغم أن المغرب ليس بلدا منتجا للطاقة إلا أنه يعتبر ثاني منتج للفوسفاط في العالم بعد الصين، ويتوفر لوحده على حوالي 70 في المائة من الاحتياط العالمي. ومن حسن حظ المغرب أن هذه المادة الأساسية في صناعة الأسمدة، يزداد الطلب عليها ويرتفع ثمنها وهو ما جعل عائداتها تدر على خزينة الدولة مليارات الدولارات . هذا إلى جانب موقع المغرب الاستراتيجي وحيازته واجهتين بحريتين، تعود على البلاد بثروات بحرية هامة، يتم تصديرها إلى الأسواق الأوروبية أساسا. كما أن صناعة السيارات، شهدت تطورا ملحوظا في السنوات الإخيرة، إذ بات المغرب ينافس دولا رائدة في المجال بإنتاج 700 ألف مركبة سنويا.
المغرب يتجه نحو طبقتين، واحدة ثرية وأخرى فقيرة:
كل هذه الإمكانات والمشاريع الكبرى والفئات العريضة من الشعب تئن تحت وطأة الفقر والتهميش وصعوبة الحصول على الحاجيات الضرورية. فالطبقة المتوسطة في المغرب، تحولت إلى طبقة هجينة بسبب ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة. وتشير بعض الدراسات إلى أن الطبقة المتوسطة في البلاد بلغت نسبتها حوالي 25 في المائة من مجموع السكان الذي يلامس رقم 40 مليون نسمة. لكن قراءة الأرقام، أحيانا لوحدها دون الوقوف على الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهذه الطبقة، يكون خادعا ولا يمكننا من مقاربة شاملة لكل التعقيدات التي تحيط بهذه الطبقة التي تواجه خطر الانمحاء، لصالح طبقتين، طبقة صغيرة، تملك كل شيء وتزداد غنى. وطبقة فقيرة واسعة، مستمرة في التقهقر والانهيار، ويتم إقصاؤها وإبعادها من سلم الارتقاء الاجتماعي.
الفساد يقتل الثروة:
والحال أن أغلب الدراسات الاقتصادية، تشير إلى أهمية الطبقة المتوسطة ودورها في تحفيز الاستثمار وإنعاش النمو الاقتصادي وضمان الاستقرار السياسي. ولم تتمكن كل المشاريع التنموية التي أطلقتها البلاد من التغلب على معضلة الفقر والبطالة التي تشمل خريجي الجامعات والمعاهد العليا. وهذه الوضعية الصعبة عكستها أرقام ونسب الباروميتر العربي، إذ كشف أن حوالي 66 في المائة من المغاربة لا تسمح مداخيلهم بتغطية احتياجاتهم الضرورية، كما أن نسبة 35 في المائة من مجموع السكان تفكر في الهجرة وهذا رقم مخيف، أي أن أكثر من ثلث السكان بقليل يرغبون في مغادرة البلاد. ويعتقد كثير من المغاربة أن الفساد الذي انتشر في كل مناحي الحياة، هو المسؤول عن تدهور الأوضاع الاقتصادية وإفشال المشاريع التنموية في البلاد. ففي إحدى الخطب التي ألقاها العاهل المغربي الملك محمد السادس بمناسبة اعتلائه حكم المغرب، تساءل: “أين الثروة وهل استفاد منها جميع المغاربة أم أنها همّت بعض الفئات فقط؟”. والواقع أن الثروة تستفيد منها فئات بعينها ولا يصل نفعها لكل شرائح المجتمع. فالإثراء غير المشروع يعرقل التنمية ويضع البلاد، داخل حلقة مفرغة. والإرادة السياسية تبدو غائبة، خاصة بعد أن تم سحب قانون تجريم الإثراء غير المشروع من قبة البرلمان من طرف رجل الأعمال ورئيس الحكومة الحالية عزيز أخنوش. فمحاربة الفساد بدون سن قوانين، تردع الفاسدين وتقطع الطريق عليهم وتحمي المال العام من المتلاعبين، يظل شعارا، يفتح البلاد على تناقض صارخ بين أقوال تذروها الرياح وبين واقع مرير، يغزوه الفساد.
لا بد من تشديد المراقبة والمحاسبة:
في كل المجتمعات، توجد طبقة بورجوازية، برأسين، واحدة وطنية، بنت ثروتها من الكد والأعمال النظيفة وتستثمر أموالها في مشاريع اجتماعية تعود بالنفع وتساهم في تنمية البلاد. وأخرى فاسدة، كدست الثروات بالطرق غير المشروعة وتحرص على تأمين ما أخذته بغير حق بتهريبه إلى البنوك الخارجية للإفلات من المراقبة والمحاسبة إن وجدت.
فأمام اتساع دائرة الفساد وارتفاع كلفة الحياة وجمود الأجور وغياب تكافؤ الفرص، تستمر الطبقة المتوسطة في الانحدار والهبوط من على سلم الارتقاء الاجتماعي. والحال أن هذه الوضعية ليست نتيجة لأزمات مالية خارجية وإنما هي نتيجة لاختيارات سياسية ولتراكمات، أخفقت فيها الحكومات التي تعاقبت على إدارة الشأن العام، في إطلاق مشاريع تنموية، مدروسة وقادرة على تطوير اقتصاد البلاد وتحريره من هيمنة المؤسسات المالية الأجنبية والعمل على تخفيض المديونية التي أرهقت ميزانية البلاد وجعلتها رهينة لحقب طويلة من الهيمنة الخارجية وفرضت على فئات واسعة من المجتمع المغربي، العيش في ظروف الضيق والخصاص.
الحل، ثورة في النظام الإنتاجي:
ولعل ما يرفع من وتيرة التحدي في الحاضر والمستقبل، التصريحات التي سبق آن أدلى بها السيد أحمد لحليمي المندوب السامي للتخطيط بكون التضخم الذي سجل لأول مرة رقمين بلغ 10,1 في المائة وليتجاوز حدود 20 في المائة في بعض المواد الأساسية، مرده إلى ضعف العرض الخاص بالمواد الاستهلاكية الضرورية. وأسبابه الرئيسة هي في كون معظم الإنتاج يتم تصديره إلى الأسواق الأوربية. فالتضخم بهذا الشكل، بات عاملا هيكليا في الاقتصاد المغربي وعلى الفئات الاجتماعية أن تتعود على ذلك. وعلى عكس الحكومة التي تحاول التملص ورمي الكرة في ملعب الأزمات الخارجية، فإن المندوب المسؤول على رأس إحدى أهم المؤسسات الرسمية التي تنجز مجموعة من البحوث وتصدر مؤشرات ومعطيات خاصة بالوضعية الاقتصادية، نبه إلى الأسباب الحقيقية التي تقف وراء معضلات الاقتصاد والنمو بالمغرب وأن لا مناص من الخروج من الأزمة إلا بالرفع من وتيرة وجودة الإنتاج عبر إحداث ثورة في النظام الإنتاجي. والواقع أن هذه الثورة وإيجاد الحلول الناجعة لضعف العجلة الاقتصادية هي المهمة الأولى والمركزية الملقاة على كاهل الحكومات التي تعاقبت على إدارة الشأن العام. إلا أن الاختيار الذي اتجهت نحوه الحكومات منذ 2011 هو رفع الدعم الذي كانت تقدمه الدولة لبعض المواد الأساسية. وهو القرار النقيض لشعار الدولة الاجتماعية.
إن التحولات التي تعصف بالطبقة المتوسطة في المغرب، تنذر بعواقب وخيمة، قد تجعل من مطلب التنمية، مطلبا مستحيلا. فالبلدان التي قفزت وحققت نسبة نمو مرتفعة كالبرازيل وكوريا الجنوبية، عـرفت وجود طبقة متوسطة، نشيطة وواسعة، إذ تجاوزت نسبتها 53 في المائة من مجموع السكان، وهو ما ساهم في تحريك عجلة الاقتصاد وإيجاد أسواق داخلية، استهلاكية لعبت دورا هاما في الحركة التجارية وأنعشت سوق العمل وخفضت من نسب البطالة. فمن جانبه عالم الاقتصاد جوزيف ستيغليز الحائز على جائزة نوبل وصاحب كتاب “الفجوة الكبرى: المجتمعات غير المتكافئة وما تستطيع فعله”، لاحظ ذوبان الطبقة المتوسطة وتركيز الثروة في أيدي القلة وما يحمله هذا الاتجاه من مخاطر على توازن المجتمعات وسلامتها واستقرارها.
فإضافة إلى العوامل الداخلية والخارجية التي أنهكت الطبقة المتوسطة وحشرتها في ركن ضيق، هناك في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ومنها المغرب، قيم التضامن والواجب وهي من صميم ديننا وهي محمودة إلا أن دخل الفرد الذي يصنف في عداد الطبقة المتوسطة، ينزل منها ويتقهقر دخله بسبب صرف الراتب الذي يضطر إلى توجيه جزء منه إلى الأهل والأقارب. فأفراد الطبقة المتوسطة ومع الصعوبات التي اعترضت طريقهم في تحصيل العلم ودخول الجامعات والمدارس الكبرى، هم في الأول والأخير منحدرون من أسر فقيرة، إن لم نقل معدومة الحال. ولا حل لهذه المعضلات إلا بالاعتناء بهذه الطبقة، فهي صمام أمان و قاطرة التنمية داخل المجتمعات.