الفرار من الموت إلى الموت…
تفاصيل مشهد عادي في يوم من أيام الله، في نقطة من أرض هذا الوطن يختزل شرخا بنيويا عميقا لم تقدر الدولة أن ترممه. تابعوا معي هذه التفاصيل، وأعتذر مسبقا عن حمولة الحزن والأسى التي سأتقاسمها معكم…
داخل أسوار مدرسة ابتدائية، ببنية تحتية معطوبة منذ سنوات، تقف سيدة متشحة بالبيضاء مما يدل على عدّتها بعد فقدان زوجها، وبجانبها طفل لم يتجاوز الست سنوات، يتمسك بها متوسلا لها بقاءه معها.
تختلط دموعه بدموعها، وتنتقل العدوى إلى كل من يقف بجانبهما، فتسيل الدموع على خدود الأستاذات بينما يغالب مدير المدرسة مقلتيه ويتنفس عميقا لعله يكبحها مترقرقة في مقلتيه.
الطفل اليتيم حديثا عاد مكرها إلى المدرسة بعد تغيب لثلاث أيام غيرت تصنيفه المجتمعي. فهو الابن البكر لزوجين شابين قادمين من حي شعبي غارق في التهميش والفقر، لكنهما اختارا سبيل الاستمرار في الحياة وخوض تحدي تشكيل أسرة وبناء أفق للعيش وتجسيد فطرة المدافعة والإعمار.
شاءت أقدار الله أن يتعرض الزوج الشاب لمرض السرطان، ليخوض نضالا مطولا على جبهة المستشفيات انتهى بنفاذ مدخراته المادية، وبرئة مبتورة، وباستمرار الداء الخبيث متربصا به. لم يركن الزوج لصيرورة المرض، بل قرر خوض المعركة الأخيرة ضد الموت المتربص به.
جاءت الأخبار من إحدى جارات النشأة المهمشة حاملة أمل الاستشفاء وتحسن ظروفها الصحية في مستشفيات الجارة الشمالية، لتختمر فكرة الفرار في ذهن الأب. فإذا كان الشباب المغامر بحياته يبرر إقدامه على الهجرة السرية بمحاولة الخروج من موت سريري مرتبط بقلة فرص الشغل وهشاشة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، فإن الزوج الشاب مقدم على خوض تجربة الفرار من موت حقيقي يتربص به، يقتطع بهدوء وبسرعة أجزاء من عافيته، ويجهز عليه في صمت مطبق، بينما يقف عاجزا عن تمويل العلاجات الضرورية.
تحكي زوجته المكلومة كيف أصرّ على العودة إلى الحياة، وكيف خاض معركة العبور إلى الضفة الأخرى. كان قرار الهجرة تشبتا بقشة بسيطة في بحر الحياة. مع الاقتراب من شط النجاة والشفاء، ظهرت فرقة البحرية الإسبانية، وفي عرف المهاجرين السريين، فإن القرار هو قلب الزورق والسباحة إلى شط الأمان.
في ذلك اليوم، سبح جميع من في القارب ونجوا، إلا الزوج الشاب الذي فشل في السباحة برئة مبتورة، فكان شط النجاة المنشود هو نفسه شط القدر المحتوم.
يحكي الطفل الصغير ببراءة الأطفال مكفكفا دموعه وبكلمات متقطعة مخنوقة: بابا لم يأكله القرش، لكنه ارتطم بالصخور.
تعرف الأمن الإسباني على هويته من ملفه الطبي المغلف والمربوط إلى جسده الهزيل بإحكام، بعدما حملته الأمواج القوية وألقت به في أجراف صخرية حادة.
يخفي هذا المشهد مأساة إنسانية ذات أبعاد اقتصادية عميقة، ومرتبطة بأنماط توزيع الثروة. وفي هذا السياق، لا يمكن إنكار المجهود الكبير الذي بذلته الدولة في سبيل استبدال نظام المساعدة الصحية بالتغطية الصحية الإجبارية، غير أن الاختلالات البنيوية لمنظومة توسيع التغطية يكرس الفوارق في الولوج إلى العلاجات خاصة بالنسبة للفئات الهشة.
أشار رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي إلى وجود أكثر من 8.5 مليون مغربي خارج منظومة التغطية، كما أن 50% من المواطنين مازالوا يدفعون للحصول على العلاجات، و57% من العلاجات تتوجه للقطاع الخاص ذي الكلفة المرتفعة بخمس مرات عن القطاع العمومي، مما يجعل المرضى في وضع الهشاشة الاقتصادية، أو ممن يعانون من أمراض طويلة الأمد عرضة لخطر الخروج القسري من شبكة العلاجات.
إن تحليل هذه الأرقام بارتباط بالواقع الذي سردته في القصة أعلاه ينذر بظهور نوع جديد من الهجرات مرتبط بالحصول على كرامة العلاج. فقد انضاف الحريك من أجل العلاج إلى خروج الكثير من الأطر إلى الدول الأوروبية بسبب معاناة أبنائهم أو زوجاتهم من أمراض مزمنة كالتوحد وأمراض القلب والتشوهات الخلقية، إلى بلدان أوروبية أو أمريكية في سبيل الحصول على تغطية صحية حقيقية تضمن لهم العلاج لحالات أبنائهم أو أقاربهم.
مازلنا بعيدين عن التغطية الاجتماعية الحقيقية، وأكبر تخوفي هو تحول الورش إلى نشاط ريعي جديد يمتص جيوب المواطنين ويغني مستثمرين انتهازيين على حساب صحتهم، وتلك قصة حزينة أخرى تحتاج تدبيج أبحاث اقتصادية معمقة عنها.