العدالة والتنمية في مسار انحدار

على امتداد العقدين الأخيرين، عاش المشهد الحزبي المغربي قصة صعود استثنائية مع حزب العدالة والتنمية. تجربة انطلقت تحت شعار الإصلاح في ظل الاستقرار، قبل أن تتكسر موجاتها على صخور التناقضات الذاتية والرهانات السلطوية. إعادة انتخاب عبد الإله بنكيران أمينًا عامًا للحزب للمرة الرابعة لم تأت خارج هذا السياق، بل كانت تتويجًا لمسار انحداري بدا وكأن الحزب لا يريد الاعتراف به ولا الخروج منه.
منذ تأسيسه السياسي، لم يطرح حزب العدالة والتنمية نفسه كمشروع بديل يسعى إلى تفكيك منظومة التحكم – وإن أبدع على لسان بنكيران أيام كان رئيسا للحكومة في أساليب التشكي من (التحكم) واستخرج قاموسا له- بل كمكوّن وظيفي داخلها: حزب يؤطر الغضب الاجتماعي، يروض النزعات الاحتجاجية، ويعيد ضخ الشرعية في شرايين نظام يعرف جيدًا متى يفتح الأبواب ومتى يغلقها.
فالحزب الذي حَسِب عليه كثيرون انتسابه إلى موجة “الربيع الديمقراطي”، واستبشروا في حدود دنيا بقدرته على انتزاع الشرعية التنفيذية وممارسة بعض من الصلاحيات التي منحت لرئاسة الحكومة، سرعان ما تخلى عن كل هوامش التغيير الجذري مع أول إشارات الخطر.
وفي الوقت الذي كان المغاربة ينتظرون من حكومة “المصباح” مقاربات جديدة في تدبير الاقتصاد الاجتماعي، اكتشفوا أن الطموحات انقلبت إلى مجرد خضوع مرير للوصفات النيوليبرالية القاسية: تحرير الأسعار، تقليص الدعم، خصخصة الخدمات الأساسية. وهكذا وجد المواطن نفسه يسدد فاتورة “الإصلاحات” دون أن يحصد سوى ارتفاع الأسعار وهشاشة الشغل وتراجع الخدمات العمومية.
ولم يتمكن هذا الحزب من الاستفادة من المناخ الذي وفره له الحراك، وبدات من ذلك ناصبه العداء، وقدم نفسه “حارسًا أمينًا” للدولة، لا منافسًا سياسيا لها. كان -بكل وضوح- جزءًا من الحل السلطوي، لا من مشكلات الديمقراطية.
ثم جاءت لحظة 2021، لحظة الحقيقة المرة. سُحقت “اللامبة” الانتخابية سحقًا، في واحدة من أكبر الهزائم السياسية في تاريخ المغرب الحديث، دون أن يُكلف الحزب نفسه جهد النقد الذاتي الجاد. سارع أعضاؤه، كالعادة، إلى البحث عن شماعات خارجية: ضربات تحت الحزام، تدخل الدولة العميقة، المال الانتخابي… بينما كان المرض الحقيقي ينخرهم من الداخل.
في هذه اللحظة التي تتطلب ثورة فكرية وتنظيمية، عاد الحزب إلى حنينه الأول: إلى زعيمه الكاريزمي عبد الإله بنكيران، الذي يتقن خطاب الشكوى الشعبية والوعظ السياسي أكثر مما يتقن بناء المشاريع الفكرية والبرامج السياسية.
لم يحمل بنكيران إلى مؤتمر بوزنيقة برنامجًا واضحًا، ولا تصورًا عميقًا لإخراج الحزب من أزمته الوجودية.
حمل معه فقط “سحر الكلام” و”رصيد العاطفة”، فكان ما كان: انتخاب سريع لزعيم عتيق، تحت تصفيقات من فضلوا الهروب إلى الوراء بدل شق طريق إلى الأمام.
إعادة انتخاب بنكيران ليست إلا انعكاسًا لانكماش الحزب على ذاته. ليست اختيارًا عقلانيًا لمواجهة تحديات المستقبل، بل لجوءًا نفسيًا إلى “الأب الرمزي” الذي يؤنس وحدة الهزيمة. حزب العدالة والتنمية، الذي طالما ادعى التميز المؤسسي عن بقية الأحزاب التقليدية، ينزلق اليوم إلى تمجيد الزعيم بدل تجديد الفكر والتنظيم، وبدلاً من أن يؤسس شرعيته الجديدة على البرامج والرؤى، أعاد تأكيد ولائه لمنطق الكاريزما، في استعادة ساذجة لزمن مضى لن يعود.
- ملاحظة لها علاقة:
من المؤسف حقا أن المناخ الذي افرزه حراك 20 فبراير مع كل التحديثات التي تلته، لم تتمكن الاحزاب السياسية (يمينية ويسارية) على الاقل التي نؤمن أن داخلها نوع من التدافع السياسي ان تغير من بنيتها، ومن المثير للعجب أن أغلب هاته الأحزاب وبأدواتها الجماهيرية أحيانا اتجهت نحو الولاية الثالثة والرابعة. وهذا موضوع يحتاج تفكيرا متأنيا لأن الغرض منه سيكون الفهم لا الموقف
*هدى سحلي