story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

العاطلون عن الأمل

ص ص

أكثر ما يقلق في أحداث الفنيدق، يوم 15 شتنبر وما قبله وما بعده، أن جزءا من شبابنا تجاوز بمراحلَ عتبةَ أن يشعر بجدوى رفع مطالبه في وجه الدولة، أو أن يضغط بالاحتجاج في الشارع، أو أن يكتب في شبكات التواصل، أو أن ينظّم صفوفه، ضمن حركة مدنية أو سياسية، لأجل انتزاع مكاسب..
شبابٌ من شبابنا أوّلَ ما حاولوا “تنظيم” أنفسهم نفذوا هروبا جماعيا، وتحرّكوا في زمان ومكان محدّدين، وسعوا إلى اجتياحٍ يحرّكه اليأس نحو سبتة المحتلة..
شباب من شبابنا لم يعودوا يشعرون أن في الدولة مُخَاطباً، أو أن الدولة يمكن أن توفّر بيئة لتحقيق أحلامهم.. لم يعد يعنيهم أن يعيشوا ويتعايشوا مع حكومة “الثورة الاجتماعية غير المسبوقة”، وقد صاروا يدركون أكثر فأكثر أنها فعلا “مهبولة”.
مبعثُ القلق، ولربما مكمنُ الخطر، وأكثرُ ما يُخيف، وما يجب أن تنْتبه إليه الدولة، أن شباباً فقدوا الأمل فيها، وأن بعضهم يشعر بعدم نفْعيةِ مخاطبتها، بكل مؤسساتها، وأنهم مستعدون لترْكِ الجمل بما حمل، لأنهم يعتقدون أنه لا لَهُم في العِيرِ ولا في النّفير.
الخطر أن يستقر في وجدان هؤلاء الشباب أن مسؤولي هذه الدولة “صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ”، وأنهم، مع ما فيهم من حماسةٍّ واندفاعِ شبابٍ، أرقامٌ مهملةٌ في السياسات، وأنهم محجوبون عن الثروات، بلا فرص.
الخطر أن لا تفهم الدولة أن شبابا لا تستوعبهم ولا يستوعبونها، وأنهم يتحركون على غير هدىً وخارج كل حسابٍ، وأنّ أيامهم سواءٌ في الفراغ والغضب، وأنهم يتنفّسون كل ساعة شعوراً مُرْهِقا وماحِقاً أن ما يريدونه لا يجدونه هنا، وأنهم سجناء في حدود جغرافية لا تريدهم ولا يريدونها.
الخطر أن يفقد شبابنا الثقة في أنفسهم أيضا ويسترخصونها إلى حدّ المقامرة بها لتنفيذ هروب جماعي يتحدّى الدولة في زمان ومكان معلومين، فينتقص من هيبتها، ويعبّر عن شعورهم بالانتقاص.
الخطر ما رأيناه من مشاهد شباب عارٍ تظهر عليهم آثار عنفٍ يجب التحقيق فيها بالنزاهة والكفاءة المطلوبة لترتيب المسؤوليات.. وحتى لا تتحوّل تلك الآثار على أجسادهم إلى شعور بالحكرة يولّد حقدا مضافاً إلى يأسٍ.
ما جرى في الفنيدق بحُكم القنبلة التحذيرية، ويفترض ألا يمر الأمر مرور الكرام.
ومع ذلك لست متفائلا أن ما جرى يمكن أن ينتج أثرا للاستدراك على كل ما فات، وقد عوّدتنا هذه الدولة أنها بارعةٌ في الاستثمار في الوقت إلى أن تخفّ مفاعيل الأحداث، ويعود المسؤولون في أجمل بلد العالم إلى روتينهم اليومي، حتى يتحدث رئيس الحكومة، الغارقِ في الأوهام، عن “تحقيق ثورة اجتماعية غير مسبوقة”، وعن أن المغرب “أول دولة اجتماعية في إفريقيا”.
يبدو أن رئيس الحكومة، ومعه كل المزوّرين للحقائق والوقائع، يحدثوننا عن بلد آخر غير المغرب، وعن مواطنين آخرين غير المغاربة، وعن شباب لا نعرفهم.. وعن “دولة اجتماعية” لا توجد إلا في خيالاتهم وأوراقهم التي يتلونها بكل ركاكة.
لا يجب أن نشجّع الدولة على أن تدخل في حالة إنكارٍ للواقع، بتغذية نظريات المؤامرة عن تدخلات خارجية وتحريضات لا توجد خارج ما يعيشه شبابنا.. قد تكون وراء ما جرى ألفُ يدٍ ويد، داخلية وخارجية، لكنها لا تستغل إلا أمراضا تنخر مجتمعنا، وتتغذّى على أعطاب سارية في أوصال دولتنا.
لا يجب أن نشجّع الدولة على أن تدسّ رأسها في التراب ونردّد مع المهووسين بالتزوير ألحان “العام زين”، بل أن نسائلها عن هؤلاء اليائسين، وعن آمالهم، وآلامهم.. حتى لا تغرق السفينة بمن فيها. وعموما، من يكتب عن الكارثة لا يتمنى وقوعها.

قصارى القول
ضروريٌ أن تدخل الدولة عقْلَ كلّ شبابٍ، وكل قاصرٍ، أو كل امرأة ورجل، من الذين تدفقوا من مناطق عديدة نحو الفنيدق، بناء على دعوات “مجهولة”، لتفهم جيدا ما يعتمل في هذا المجتمع.. أن تستمع جيدا لما أرادوا قوله من خلال محاولتهم الهرب بعيداً.
ما جرى بحكم العرَض الطبّي الذي يشير إلى وجود خلل في وظائف الجسد. من المهم أن نشخّص جيدا حالتنا وأسباب غضب هؤلاء الشباب، وأن نصف العلاجات الصحيحة، وبداية التعافي أن نشعرهم أنهم مهمّون في بلدهم، وأن الدولة تستمع جيدا لانشغالاتهم. بذلك “نُربّي الأمل”، على قول محمود درويش، الذي نظم:
“هنا،
عند مُنْحَدَرات التلال،
أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ”.