story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الشنّاقة الكبار

ص ص

عيون حزينة.. وجوه كئيبة.. رجال تشكو القهر ونساء تداري الحسرة…

هكذا عاد العيد “الكبير” هذه السنة، بسبب هذا الجحيم أشعله القائمون على تدبير شؤون المغاربة واختفوا.

لم يعرف المغاربة منذ صدمة 1996 التي جمعت بين الجفاف وبوادر السكتة القلبية التي حذرت منها المؤسسات الدولية الملك الراحل الحسن الثاني، واضطر معها إلى التوجيه نحو عدم ذبح الأضاحي، عيدا بهذه القسوة وهذا الثقل على النفوس.

لا نعرف صراحة هل تنقل التقارير التي تدبّجها عيون السلطة، هذا الوجوم الذي يخيّم على المغاربة هذه الأيام، وهذه الأجواء التي تنذر، لا قدر الله، بالانتحارات والاصطدامات والانفصالات… وما ستخلّفه ذكرى عيد دون أضحية في النفوس من جراح وانكسارات.

أتساءل عن التقارير لأنني على يقين من أن جل الذين يتصدرون اليوم لتدبير مصائر المغاربة، ينظرون إليهم من فوق أبراج شاهقة. لا يعرفونهم، ولا يخالطونهم، ولا يشاطرونهم أفراحهم ولا أحزانهم.

كنت شخصيا وإلى وقت قريب، ضد الدعوات التي يوجهها البعض للدولة لاتخاذ قرار بعدم ذبح أضاحي العيد هذه السنة، بفعل أزمة الغلاء والندرة التي نعيشها. واعتبرت دائما أن للمجتمع قسط من المسؤولية ينبغي أن يتحمّلها، وأن المواطن المغربي مطالب أيضا بالانخراط في تقرير مصيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتعامل بواقعية مع شعيرة دينية لا يوجبها الإسلام إلا مقترنة بشرط الاستطاعة وفي إطار السنة المؤكدة فقط، لا الفريضة.

لكن الأمر اختلف الآن، لأن شراء أضحية وذبحها في يوم العاشر من ذي الحجة لم يعد مجرد شعيرة دينية اختيارية، بل بات سياسة عمومية مقصودة وممنهجة، تنفّذها الدولة وتتخذ لها القرارات وتنفق عليها من المال العام… أي أن الدولة بشكل غير مباشر، باتت اليوم تحوّل هذه السنة المؤكدة إلى فريضة، حين تقوم بمحاصرة المواطن من جميع الاتجاهات، وتجيّش سلطة المجتمع ضده، وتسوقه كما يسوق الراعي قطيعه، نحو “الرحبة” كي يشتري شاة قد لا يكون ي حاجة إلى لحمها ولا قادرا على نيل ثوابها.

سياسة تعبّر عن نفسها حين تقوم الحكومة بالإعلان عن تخصيص دعم مالي مباشر، تقتطعه من جيوب المغاربة، وتمنحه لمن يستوردون المواشي، والذين سيدفعون مقابلها بالعملة الصعبة التي تعب و”عرق” فيها مغاربة العالم وعمال مصانع الإنتاج والتصدير والفنادق، ثم لا تقوم بأدنى تدبير يضمن على الأقل انعكاس هذا الدعم على سعر البيع النهائي للمواشي. لا بل وتصرف أجور موظفيها قبل منتصف شهر يونيو، لتجعل الموظف المغربي البسيط مُكرها أمام محيطه وأسرته، على تسليم رزق شهره المقبل لشنّاقة الأسواق، وقضاء سبعة أسابيع مقبلة في شبه حالة إفلاس.

لم نعد الآن أمام طقوس وأعراف اجتماعية، وميول لدى البعض نحو التباهي والتفاخر وإظهار الجاه… بل نحن أمام إقامة شريعة دينية بالإكراه، ودون شفقة ولا رحمة، بما أن هذا المواطن الذي يساق هذه الأيام عنوة نحو السوق، لا يجد من يرحمه أو يمنحه الخيار.

كنت خلال هذا الأسبوع في رحلة رفقة مجموعة من الصحافيين من عدد من الدول العربية، وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين علمت من زميل مخضرم ومتخصص في الاقتصاد ويعيش منذ 25 عاما في إحدى دول الخليج الغنية، أن الدولة هناك توفّر خرافا مدعومة لمن يرغب في إقامة شعيرة عيد الأضحى، وهم قلة، تستوردها من أحسن الخرفان السورية التي تتغذى على المراعي الطبيعية، وتقدّمها بسعر لا يتجاوز 200 دولار…

نعم، خروف بأقل من ألفي درهم في دولة خليجية غنية، هكذا تتصرّف الدولة هناك، بينما تحوّلنا الحكومة هنا التي تزعم أنها تقيم الدولة الاجتماعية، إلى قطيع من الخرفان، وتسوقنا نحو المسلخ دون شفقة ولا رحمة.

بالأمس فقط ذكرت أمام مجموعة من الأصدقاء والزملاء على هامش أحد اللقاءات، كيف أن الرسالة التي وجهها الملك الراحل الحسن الثاني للمغاربة داعيا إياهم إلى الامتناع عن ذبح أضاحي العيد سنة 1996، كلّها تنطبق على السياق الحالي، من ندرة للمواشي، وجفاف، وكلفة مالية لخزينة الدولة من العملة الصعبة، وانعكاس حتمي على أسعار اللحوم بعد العيد… فكان جواب أحد الأصدقاء جامعا مانعا: الفرق هو أن أصحاب المال والمصالح حينها لم يكونوا يحكمون، واليوم هم من يحكم.

ماذا كانت الدولة ستخسر لو اتخذت القرار نفسه الذي صدر عام 1996؟ لا شيء بتاتا. بل العكس، كانت ستوفّر كل تلك الملايير التي ضخّتها حتى الآن في حسابات كبار المستوردين بمنطق زيد الشحمة في ظهر المعلوف، وتوفّر قرابة مئة مليون دولار من العملة الصعبة، إذا افترضنا أن الخروف المستورد الواحد يكلف 200 دولار فقط. وكنا سنربح جميعا أجواء طبيعية لا يشعر معها العاجزون عن شراء الأضحية بأي نقص أو عقدة أمام الأهل والأبناء.

لسنا هنا بصدد الحديث عن منطق المنع، لأن الأمر يتعلق بواجب ديني لا حق لأحد، بما في ذلك الدولة، في منع الناس من ممارسته باعتباره علاقة خاصة بين الانسان وضميره. والذين عاشوا حالة 1996 يعرفون أن الكثير من الأسر قامت بذبح الأضاحي. ويوثّق الباحث محمد مهدي في دراسة علمية، أن جل سكان البوادي الذين كانوا قد عيّنوا الشاة التي سيضحون بها ذبحوها بالفعل يوم العيد رغم رسالة الحسن الثاني، وبعض السلفيين وذوي الرأي الديني المختلف عن الرأي الرسمي، قاموا بذبح الأضاحي يوم 9 ذي الحجة تزامنا مع العيد في العربية السعودية، وبعض الأسر في المدن، القادرة على ذلك، اشترت الأضاحي وذبحتها بالفعل تحت “عين ميكا” التي قامت بها السلطة، وكفى الله المؤمنين شر عناء الاستيراد والتكلّف و”التسلّف” فوق الطاقة وأكثر من الاحتمال.

قرار مثل هذا هو بمثابة رفع للعتب عن الضعفاء والعاجزين، وممارسة لسلطة معنوية ما زال لها دور كبير في تدبير الحياة الجماعية في هذه الرقعة من العالم.

حتى الدفوعات الاقتصادية التي تقوم بها الحكومة اليوم، مردود عليها. لأن الدولة التي تنتهز لحظة دينية لتُكره المجتمع على حركية اقتصادية تعتمد على أنشطة موسمية عابرة، هي دولة متخلفة، مستبدة، غير رحيمة بمواطنيها.

على الحكومة أن تخجل من نفسها وهي تتحدث عن 15 مليار درهم التي تزعم أنها تنتقل من المدن إلى البوادي. لأن مغاربة القرى يحتاجون أضعاف هذا البقشيش لينالوا كرامتهم كاملة. وأموال هذه المناسبة تؤول اليوم إلى شنّاقة كبار، يستوطنون المدن الكبرى ويجاورون الأغنياء والمسؤولين ممن يتلقون خرفان العيد هدية مجانية، ولم نعد ذلك الاقتصاد الذي يلتقي فيه صغار الفلاحين والكسّابة بموظفي وعمال وأجراء المدن في الرحبة، لا يحول بينهما سوى “الشناقة الصغار” المقدور عليهم وعلى ألاعيبهم.

مشكلتنا اليوم مع حيل وألاعيب وسيطرة “الشنّاقة الكبار” الذين باتوا يستثمرون في كل شيء، بما في ذلك مشاعر المغاربة الدينية.

وكما جاء في رسالة الحسن الثاني لسنة 1996، فإن عيد الأضحى ليس هو ذبح المواشي، بل هو ذلك الفرح الجماعي والتضامن والتآزر والالتئام حول مائدة واحدة يقيمها الغني ويحضرها الفقير…

الحاصول، لا نملك إلا أن نردّد مع المتنبّي:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ
فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ