السلام عليك غزة
السلام عليك غزة الغرّة (والغُرَّةُ من كل شيء: أوَّله وأكرمه).
السلام على أرواح شهدائك..
السلام على أهلك الأحياء.
السلام على رضّعك وأطفالك ونسائك ورجالك..
السلام على مقاوميك، أحياءً أو شهداء أحياءَ عند ربهم.
السلام على قادتك الذين قُتلوا مع شعبهم وقضوا مشتبكين.
السلام على كل نفْس ونفَس فيك.
السلام لأرضك وبحرك وسمائك وهوائك.. وأنفاقك.
السلام لشموخك ورسوخك.. حتى وأنت تتألمين.
15 شهرا من القتل والتجويع والتعطيش وتهديم كل أسباب العيش حتى تجمّد الرُضّع في مهودهم.
15 شهرا من قصف الليل والنهار، حتى تراكمت الجثامين في الشوارع تأكلها الكلاب.
15 شهرا من التهجير من مكان إلى آخر، ومن مآويَ مقصوفةٍ إلى أخرى على جدول القصف.
15 شهرا من إبادة عائلات مُحيَ ذكرها من السجل المدني.
15 شهرا من استباحة المستشفيات وفصل الكهرباء عن أجهزة الإنعاش، واستهداف المواليد الخُدّج في حواضنهم.
15 شهرا من قصف سيارات الإسعاف وقوافل المساعدات وإجبار المرضى على الزحف خارج المشافي.
15 شهرا لم يترك فيها أشرف الناس أرضهم نهباً للاحتلال وقد فعل القَتلةُ كل موبِقة لتهجيرهم.
15 شهرا من شلال أطهر دمٍ سفكه أرذل جيش.
15 شهرا من نموذج الإنسان الوحش الذي مزّق كل قانون وداسَ كل عُرفٍ ونسف كل قيمة.
15 شهرا من صمودٍ مُعجزٍ لمقاومة لم ترفع الراية الاستسلام رغم كل الأهوال.
15 شهرا استشهد فيها سنوار المقاومة، وهنيّة الكرامة، وعاروري الشرف، ونصر الله.. وآلافٌ ممن نعرف ومن لا نعرف، على طريق القدس.
15 شهرا من الخيانة والجبن يُسربل نظامنا العربي الساقط المنكوب. وما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ.
15 شهرا من إطلاق العالم يدَ إسرائيل المصدومة بـ7 أكتوبر لتفعل الأفاعيل وتصنع الهولوكست الخاص بها.
15 شهرا من جسور جوية أميركية لم تنقطع نحو تل أبيب تنقل السلاح بكافة أنواعها ودرجات فتكه.
15 شهرا من تضامن إنسانيٍ لا يزال يسكن قلوباُ شفيقةً تصِلُ رحِماً إنسانية ولا تنظر في دين ولون الضحية.
الآن، وقّع الاحتلال مع المقاومة، التي تعهّد بتدميرها، اتفاق وقف إطلاق النار. فاوضها مرغماً وما فرضَ شروطه بعدما استحال إنهاؤها وكان يُحصي قتلاه حتى كتابة السطر الأخير في الاتفاق.
سيكتب المُرجِفون أن قتلى غزة بلا عدّ، وأن الدمار بلا حدّ، ليرتّبوا على قدر سقوفهم الهابطة وأفهامهم المريضة بالهزيمة نتيجةً لا ترى أي نصر.
أمّا نحن أنصار المقاومة، المنغمسين مع أهل غزة في ألمهم، ونعرف فلسطين قبل 7 أكتوبر وبعدها وحتى ينقطع النَفَس، فنقول أيضا إن القتلى بلا عدّ، وإن الدمار بلا حدّ، ونحصي شهداء غزة فرداً فرداً، لنُدرك ويدرك العالم فداحة ما اقترفه المجرمون، ولنألم كما يليق بكل روحٍ زُهِقت، ولنتأكد أننا نعرف القاتل يقيناً وقطعاً، ونعرف أعوان الجناة اسماً اسماً، ولننظر في عيون كل مبيِّضي الفظاعات مبخّسي التضحيات ونقول: “لا تخجلون، من أين لكم وفرة الحبّ للقاتلين؟”.
سيكتب المرتعشون عن هزيمتهم لا هزيمة غزة، وعن سقوطهم لا سقوط مقاومتها، وعن خضوعهم للاستبدادات في أوطانهم وقتما تقاوم غزة محتلّيها.. وسيكتبون عن حضيضهم وقد دفعت كل غزّة بُرهانَ بطولتها.
نحن أيضا نرى الدمار، وكل الدم المسفوك، ونصنّفه دليلا على أن مقاومة المحتلين حقّ.. وأن دماءَ أهل غزة دليلٌ على أن مواجهة المحتلين واجبةٌ، في 7 أكتوبر، وبعد 7 أكتوبر.. حتى النصر.
سيكتبون من مِحْبرة الاحتلال، وسيسوّقون أكاذيبهم على هوى تل أبيب، وودّوا لو احتفلوا مع جنودٍ مثقلين بالعار حين عودتهم من جحيم بيت لاهيا والنصيرات وخانيونس ورفح وجباليا والشجاعية.. وكل بقعة مخضّبة بدماء الأبرياء.
المحتلون خضعوا لاتفاق وقف إطلاق النار لأنهم يئسوا من استعادة أسراهم بالنار مثلما توعّدوا، ولأنهم يئسوا من تدمير المقاومة التي يخلف فيها مقاومٌ كلّ يومٍ شهيداً، قدماً على قدمٍ، كتفاً بكتف، حتى لا يسقط السلاح. وأيضا، لأن جيش الإبادة الجماعية أُرهق من القتل والوحشية وما سمِعَ لمقاتلي غزة أنيناً. ولأن دولة الاحتلال غرقت في وحْلِ جرائمها ومحاكماتها، وعزلة تتنامى حتى يتحرّر العالم من قيْدِ معاداة السامية، تلك التهمة المفزعة.
المحتلون يبلعون اتفاق غزة بصعوبة وهم يرون معالمً نكسةٍ متراكمةٍ آتية، وألفَ سِنوار ينبعث من رماد غزة. والخوّافون بيننا يفتّشون عن الهزيمة بالمِلْقاط على ألسنة أهل غزة اللاهجة بـ”كلو فدا القدس” و”كلو فدا فلسطين” و”كلو فدا المقاومة”.. يبحثون عن الهزيمة بين ركام المنازل الذي هدمها “مغول العصر” ولا يَلْوُون على شيء.
غزة تألم، لكنها تدرك أنها حُوصِرت 18 عاما وتخلى عنها العالم، وأنها قاومت لأجل كرامتها، والقدس. غزة تعرف أن المحتّلين ما تركوا لها إلا أن تختار القتل بالتقسيط أو القتل جُملة. وغزة جرّبت أن تعيش.
غزة تحبّ الحياة، وترقص لوقف إطلاق النار، ويعود أهلها مسرعين خَفافاً إلى أحيائهم التي هدمها الاحتلال، دليلَ تشبثٍ بالأرض. وانظر كيف يغضب المحتّلون. ألم يخاطب الوزير الإرهابي بن غفير مجرمَ الحرب نتنياهو: انظر أين يوجد الفرح لتدرك المنتصر والمنهزم.
غزة تدرك أن للكرامة ثمناً، وأن لفلسطين عربونَ صدقٍ ومقاومةٍ. وأنّ النصر آتٍ.
غزة تدرك أن مقاومة فلسطين كانت قبل عقود حجراً، ثم سكينا يطعن، وبعده مقذوفات بمدى كيلومترات محدودة، قبل أن تنبعث طوفانا عظيما أذلّ الاحتلال فتداعى العالم لإنقاذه وأطلق أيديه للإبادة. “أطفالُ الحجارة” صاروا قادةَ مقاومة، وكتائبَ وخططاً وأنفاقاً، واشتباكاً لا يلين. وانظر في مسار التاريخ ترى المنتصر والمهزوم.
غزة تدرك أنها في حربٍ تحرير لا تُحسم بجولة، وأن العدوان الأخير معركةٌ، وأن لا سبيل للتسليم للمحتلين، وأن قدرَ المظلوم عزيز النفس أن يقاوم، لا أن يُذعن.
غزة تنتصر إن لم تنكسر. وغزة لم تنكسر.. غزة ستعود لتداوي جرحها النازف، وستعدّ العدّة ليوم مجيد آخرَ، يفتل في حبْل نصرها، ويفُتُّ عَضُد قاتلها.
غزة انتصرت يوم استشهد القادة وخلفهم قادةٌ شهداء مع الشعب، وكذّبوا الكذّابين عن فرارهم ورغد عيشهم.
الآن، هل تأمنُ غزة ألّا يعود المجرمون لإجرامهم عندما تسلّمهم أسراهم وهي تسمع عن ضمانات أميركية للاحتلال بالعودة للقتال؟ غزة لا تأمنهم، وتعرف خسّتهم جميعاً. (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).
ستُقاومهم غزة ألف مرة ومرة بما تستطيع، وستنتصر ما بقيَت واقفة. ولن تنحني ولن يُمحى ذكرها ولو أفرغوا كل سلاح الأرض فوقها. وقد فعلوا.
قصارى القول
بعد غزة، سينتقلُ المحتّلون، جارين انكسارهم، إلى الضفة والقدس لتحصيل انتصار، بسرقةِ الأرض والتهجير، وتوسيع الاستيطان، وتفتيت المفتّت في الكيان الفلسطيني، مدعومين بترامب الذي ما صرخ في وجه نتنياهو لتوقيع اتفاق إلا لينقذ إسرائيل من وحْل غزة. في الضفة ستكون المعركة الأقسى لأجل الأقصى. في الضفة عنوان رئيس لأهداف الاحتلال، وعلى ظهرها سيحاولون جباية ثمن وقف الحرب. وآسفي أن عرباً (كلهم إسرائيليون) لا يرون ظُلماً، ولا مقاومةَ لظلمٍ، ولا انتصارا في معركة على ظالم. فقط سجناء في أقفاص تسمى أوطاناً مسلوبة الإرادة، غارقة في الاستبدادات، ولا تبرع إلا في التواطؤ والكيد، والقمع. في غزة نصرٌ، وكثير منّا غارقٌ في الهزيمة ويتعالم.
والسلام عليك يا فلسطين مذ كنت، وستبقين إلى أبد الآبدين. والمحتلون إلى زوال.