“السرّ الدولتي” في الزاوية البوتشيشية

تابعت، كما فعل كثيرون، ما يُتداول في النقاشات العامة حول السرّ الرباني للزاوية البوتشيشية، وعن الخلافات التي عصفت بالبيت الداخلي بين الإخوة، أو عن الممارسات التي يرى البعض أنها ابتعدت جزئيا عن التصوف السني الرصين…
لكن ما كان، وما زال، يشغلني أكثر من هذا كلّه، هو السرّ الدولتي، أي ذاك البعد غير المرئي الذي يفسر لماذا انشغلت الدولة المغربية، في أعلى مستوياتها، بأمر الخلافة في هذه الزاوية، إلى حدّ أن يُستنفر وزير الأوقاف نفسه، ويُربط الأمر مباشرة بإمارة المؤمنين، وأن تتحدث مصادر في الرباط عن اجتماعات طارئة لمعالجة الوضع.
أيُّ سرّ هذا الذي يجعل زاوية صوفية تتحول إلى ملف سيادي؟
وأية رهانات هي تلك التي تدفع الدولة إلى التدخل في تفاصيل مشيخة روحية؟
هنا، وفي قلب هذه الأسئلة، بدا لي بعد بحث، وقراءات، واستعانة بالمصادر، أن هناك ثلاثة عناصر كبرى يمكن أن تضيء جوانب هذا اللغز:
• أولها، البعد الجيوسياسي الكامن في الزاوية نفسها بحكم تمركزها في منطقة حدودية شديدة الحساسية؛
• ثانيها، الطفرة التاريخية التي عرفتها الزاوية مع التحاق رجل اسمه عبد السلام ياسين بصفوفها في منتصف الستينيات، وهو التحاق لم يكن عابرا، بل ترك بصمته في مسارها إلى اليوم؛
• أما ثالثها، فهو حضور تلك السيدة الفرنسية التي ورد ذكرها في رسالة وزير الأوقاف أحمد التوفيق إلى منير القادري، بما يرمز إليه من تقاطعات بالغة التعقيد بين الروحي والدبلوماسي والسياسي.
أولا:
لم تولد البوتشيشية في فراغ، ولا في قلب “المغرب النافع”، بل في هوامش جغرافية على سفوح بني يزناسن بين بركان ووجدة، في قرية مداغ الواقعة في منطقة ظلّت قرونا معبَ طرق وتجارات ونُسك، وساحةَ تداخل قبلي وثقافي عبر الحدود الشرقية للمملكة.
هذه الجغرافيا الحدّية ليست تفصيلا؛ فهي التي منحت الزاوية، منذ بداياتها الحديثة، حسَ “العبور”.
عبور الأنساب العلمية (قادرية الجذر مع تشابكات شاذلية–درقاوية–تيجانية عبر شيوخ الفضاء المغاربي)، وعبور الشبكات البشرية التي تتحرك ذهابا وإيابا بين شرق المملكة وغرب الجزائر.
في هذا البرزخ الحدودي تشكّلت سرديةُ “القُرب من الدولة” و”القرب من الناس” في آن واحد: يد تربّي المريدين على السلوك، ويدٌ تُصافح المخزن وتقرأ خرائطه.
بهذا المعنى، ليست الزاوية “كيانا روحانيا” محضا، ولا “ذراعا سياسيةً صِرفة”، بل هي بنية شبكيةٌ نشأت في تخوم حدودية، وتغذّت من حركة البشر والرموز عبر الشرق المغربي، ثم استقرت في قلب هندسة الحقل الديني بعد 2003.
هذه الخصائص تُفسِّر لماذا تتجاوز أية أزمة داخلها حدود “الخلاف الأسري”، أو “تدبير الوقف”. نحن أمام مؤسسة تستقر في نقطة التقاء ثلاثة مدارات حساسة: الحدود الترابية، والشرعية الدينية، ورهانات الأمن الروحي. وكلُّ اضطراب فيها يدوّي خارج أسوار مداغ.
فليس من قبيل الصدفة أن تتجذّر القادريّة البوتشيشيّة في مداغ، على مرمى حجر من وجدة والحدود مع الجزائر.
المكان نفسه يشي بوظيفته: تخومٌ تاريخية عبَرتْها القوافل والطرق الروحية معا، وتبادلت عبرها القبائل والعلماء والذاكرون السِّماتَ أكثر مما تبادلوا السِّلع.
هنا ترسّخ بيت الطريقة، وهنا أيضا اكتسبت “البوتشيشيّة” طابعها الحدودي: مغربيةُ الجغرافيا، مغاربيةُ الأفق، وشبكاتُ انتساب تمتدّ دون أن تقطع عُراها مع المركز الديني المغربي.
تنحدر الزاوية تاريخيا من السلسلة القادريّة، لكن ملامحها الحديثة تبلورت مع الشيخ سيدي بومدين، ثمّ مع سيدي العباس، قبل أن تنتقل المشيخة سنة 1972 إلى الشيخ حمزة (1922–2017)، الذي أعاد صوغ المؤسسة روحيا وتنظيميا، ووسّع إشعاعها خارج محيطها القبلي إلى نخَبٍ مدينية ومهنية عالية التأهيل، ب”ضغط” وتحفيز من عنصر جديد اسمه عبد السلام ياسين، كما سنرى لاحقا.
لكن الأهم في كل ذلك أن الشيخ المختار الذي بدأ معه استعمال لقب ال”بوتشيشية”، قاوم الاستعمار الفرنسي في المنطقة الحدودية المغربية الجزائرية، جنبا إلي جنب مع الأمير عبد القادر. ومن يملك أدنى معرفة بخصوصيات المنطقة الشرقية للمغرب، يعرف جيدا كيف أنها عبارة عن صندوق ألغام مقفل بشكل مؤقت، وأن جزءا من لعبة السيطرة والنفوذ في هذه التخوم، يمرّ عبر الزوايا وأضرحة الأولياء.
بهذه الخلفية، نفهم لماذا لا تُقرأ الأزمة الراهنة في البيت البوتشيشي كـ”خلاف عائلي” أو “نقاش داخلي” فحسب.
إنّها أزمة تمسَّ عُقدة وُلدت على الحدود، وتعمل عند حدودٍ أخرى: بين الروحي والسياسي، بين المحلي والمغاربي، وبين الدولة ومجتمعٍ يبحث عن تديُّن مُطمئنٍ لا ينقطع عن العصر.
هذه العُقدة، بما فيها من موقعٍ جغرافيّ حساس، وذاكرةٍ تنظيمية، ورأسمالٍ رمزي متراكم، هي التي تجعل أيّ اهتزاز داخليّ في الزاوية شأنا وطنيا عموميا تمسُّ ارتداداته حسابات الدولة الحيوية.
ثانيا:
من الصعب فهم الصعود “الثاني” للطريقة القادرية البوتشيشية، بعد الأفول الشامل للزوايا مع صعود التحالف بين الملكية والحركة الوطنية ذات الخلفية السلفية الإصلاحية؛ دون المرور بمرحلة عبد السلام ياسين داخلها.
فهذا الرجل لم يأتِ إلى مداغ (وجدة تحديدا حيث التقى الشيخ العباس أول مرة) زائرا عابرا؛ بل كان منذ منتصف الستينيات إطارا تربويا صاعدا بقوة، بشبكة علاقات مهنية واسعة مع نخبة التدريس والإدارة.
وحين التحق بالطريقة على يد الشيخ العباس، سرعان ما أصبح من المقرّبين والمؤطّرين، إلى أن تشكّل لديه تصورٌ يتجاوز “السلوك الفردي” إلى مشروعٍ سياسي جماعي.
ورغم أننا انتقلنا هنا إلى العنصر الثاني، إلا أن العامل الجغرافي والحدودي يظل مصرا على فرض نفسه. فاللقاء الأول الذي جمع عبد السلام ياسين بالشيخ العباس، جرى بينما عبد السلام ياسين عائد من الجزائر التي ذهب إليها بعد لقاء رسمي بالملك الحسن الثاني، والذي كان يحاول أن يكسب ودّ الظام الجزائري، فبعث إليه خيرة أطره التربوية لتكوين النواة الأولى للتعليم الجزائري، وكان ضمن هؤلاء الأطر الذين حرص على توديعهم شخصيا.. عبد السلام ياسين.
هذا الأخير، وكما يروي شخصيا، عرّج على وجدة في طريق عودته، وكان يبحث عن شيخ الزاوية التي بات يواظب على حضور أنشطتها في مدينة سلا، ايمانا منه بفكرة الشيخ المربي (الحي)، وهو المكتشف حديثا لفكرة التصوّف بعدما لم تقنعه نظريات الماركسية.
تؤكد المصادر المتقاطعة عضوية عبد السلام ياسين الفعلية في الزاوية البوتشيشية خلال النصف الثاني من الستينيات، بينما حدثت القطيعة أوائل السبعينيات حين رفضت القيادة تحويل الزاوية إلى رافعة عمل دعوي وسياسي.
وخلاصة ما تقدّمه المصادر الموثوقة والموثّقة، أن التحاق عبد السلام ياسين بالزاوية البوتشيشية كان له مفعول “ايقاظ الراكد”، حيث انبعثت الزاوية من تحت رماد التصوّف الخامد وقتها.
لقد أعاد عبد السلام ياسين توجيه عيون النخب الحديثة، من أساتذة، ومفتّشين، ومهندسين… نحو تجربة صوفية كانت حتى ذلك الحين شبه محليّة، وأيقونية فقط.
ولعب ياسين بالتالي دور “المرشد غير المقصود” لمسارين متعاكسين: ضخّ في الزاوية نفسا حضريا وتحديثيا ونخبويا، وعندما اصطدمت أحلامه السياسية بممانعة خليفة شيخه، الشيخ حمزة بن العباس، والراجح أن يد الدولة كانت حاضرة وفاعلة في الخلفية، غادر ليبني جماعةً تُسيّس القيم الروحية.
لا أعتقد شخصيا أن بالإمكان فهم أو قراءة كل ما جرى في الزاوية البوتشيشية منذ منتصف الستينيات بعيدا عن تأثير عبد السلام ياسين.
فقد قام أول الأمر بإحياء الزاوية من خلال احتضانه شيخها العباس، وحرصه على مصاحبته في جل أوقات عطلته، خاصة في الفترة الصيفية.
كان عبد السلام ياسين يطوف أرجاء المغرب مصطحبا شيخه، ومواليا استقطاب المريدين من طينة جديدة ومختلفة: أطر متوسطة وعليا.
وبعدما عجز عن توفير ما يكفي من اعتمادات مالية لتحسين وضعية الزاوية وتمكين شيخها من قدرة أكبر على الحركة، تنازل له عن سيارة الميرسديس التي كان ياسين قد اشتراها جديدة بكل ما يعنيه ذلك في تلك الحقبة من قيمة عالية وثمينة.
لكن عين الدولة سرعان ما التقطت مفعول الطاقة الجديدة التي ضخّها عبد السلام ياسين في الزاوية البوتشيشية، خصوصا تطلّعه نحو تغيير وجهتها من العمل السلوكي الفردي والروحاني، أي الإحسان، إلى الاشتغال أيضا على عنصر “العدل” بما يعنيه من عمل “جهادي” وجمع بين الدعوة والدولة، كما سيظهر مع أحد كتبه الأولى بداية السبعينيات.
بل إن “بدعة” الوصية التي ستظهر في الزاوية نهاية الستينيات، لا يمكن فهمها إلا في إطار مخاوف الدولة من سيطرة عبد السلام ياسين الكاملة على الزاوية وتوظيفها في خدمة مشروعه السياسي الذي لا يستطيع أحد توقعه مداه.
لهذا نجده أحد الشاهدين على وصية الشيخ العباس لابنه حمزة، والتي وإن كان قد وقّع عليها، فإنها تسجّل كلحظة بداية القطيعة بين هذا الوافد الجديد والزاوية المنبعثة من رمادها.
لا تنفي أحاديث وحوارات الراحل عبد السلام ياسين نفسها خلافه العميق مع شيخ الزاوية الجديد وقتها، حمزة بن العباس، وشهادات رفاقه الأحياء حتى هذه اللحظة، تؤكد تعبيره عن تحفّظاته مباشرة بعد دفن الشيخ العباس، حيث تحدّث عن توزيع إرث الشيخ بين “حال” و”علم” و”صلاح”، وأن الشيخ حمزة ورث “الحال” فقط.
وهذا الأخير في أحد حواراته النادرة مع الزميلة “المساء”، يؤكد عمق الخلاف مع عبد السلام ياسين، والمتمثل في إصرار هذا الأخير على الخروج بالزاوية من انكفائها الروحي إلى انطلاقة سياسية تبشّر بالعدل إلى جانب الإحسان.
بعد خروج ياسين منها للتبشير بمشروعه السياسي في أرض الله الواسعة، وابتداء من انتقال المشيخة إلى الشيخ حمزة سنة 1972، اعتمدت الزاوية مسلكا تنظيميا وتربويا أكثر مرونة واتساعا، لا يبدو أنه من قبيل الصدفة أو من تدبير الشيخ حمزة. تخفيف شروط الانخراط، إدارة حديثة، تواصل مؤسسي… ما سهّل استمرار تدفّق تلك الفئات المتعلّمة داخل شبكاتها.
هذا التكيّف المؤسسي، الذي تُجمِع الأدبيات على اعتباره أحد أسرار انتشار البوتشيشية داخل المدن والشرائح المتوسطة والعليا، لا يُفهم خارج تلك “النافذة” التي فتحها ياسين أصلا بين التصوف وفضاءات النخبة الحديثة حتى بعد مغادرته.
وبصمات الدولة في هذا الفصل بين الزاوية البوتشيشية ومشروع عبد السلام ياسين السياسي واضحة للعيان، بعدما أخضعت الشيخ حمزة نفسه للإقامة الجبرية بعد رسالة عبد السلام ياسين الشهيرة (الإسلام أو الطوفان)، حيث استمرّ الخوف من امتدادات مشروع ياسين داخل الزاوية عقودا بعد خروجه الرسمي منها.
ويكفي استحضار السياق الذي ميّز مرحلة دخول عبد السلام ياسين إلى الزاوية (حالة الاستثناء)، وخروجه منها (فترة الانقلابات ومحاولة 1973 الثورية) لفهم لماذا كان نشاط مؤسس جماعة العدل والإحسان الحالية، بمثابة الكابوس بالنسبة للدولة.
فرغم تأكيده خيار السلمية ونبذ العنف، إلا أن عبد السلام ياسين كان يشكّل رافدا محتملا لمنح أية مغامرة ناجحة لتغيير النظام، غطاء الشرعية الدينية والانتقال السلمي…
بقي طيف عبد السلام ياسين مخيّما، بل مسيطرا ومهيكلا للزاوية البوتشيشية، حيث عادت “بدعة” الوصية لتمارس عام 1990. بل إن الوصية هذه المرة، والتي لم يكن كاتبها سوى وزير الأوقاف الحالي أحمد التوفيق، أضافت “طابقا” احتياطيا ثانيا، حين أوصى الشيخ حمزة لابنه جمال من بعده، ثم حفيده منير لاحقا.
زيادة فسّرتها مصادري الخاصة بالوضع الصحي للراحل جمال، والذي كان يولّد الخشية من موته المبكر، فتم تجديد “البدعة” منعا لأي انبعاث جديد لطيف عبد السلام ياسين داخل الزاوية.
في بدايات العهد الجديد، ورغم قرار رفع الإقامة الجبرية عن عبد السلام ياسين، التقطت الدولة مجددا ذلك الرأسمال الرمزي للبوتشيشية، فصقلته وأدرجته داخل استراتيجيتها لما بعد 2003 بوصفه حاجزا معنويا وسياسيا أمام “المشروع الياسيني”.
ما يثبّت هذا الاستعمال ليس فقط الخطاب، بل الوقائع، حيث تحوّلت الزاوية إلى مؤسسة مترامية الفروع ذات إدارة حديثة وعلاقات عمومية، مع توظيفها في لحظات الانقسام السياسي الكبرى كصوتٍ ديني داعم للخيار الرسمي، ثم تقديمها، في الداخل والخارج، كوجه “الاعتدال المغربي” في مواجهة حركات الإسلام “الحركي”.
خلاصة هذه الفقرة الثانية من المقال،أن الدولة لم “تُنشئ” البوتشيشية، وعبد السلام ياسين لم “يُحوّلها” إلى حزبٍ صوفي. لكن تلاقي اللحظتين، أي لحظةُ انفتاح الزاوية على النخبة عبر أفق ياسين الروحي-الفكري، ولحظةُ استيعاب الدولة للتصوف داخل هندسة الشرعية الدينية، أنتج دورا جديدا للطريقة: من مدرسة سلوك فردي إلى فاعل يوازن مشروع العدل والإحسان في الشارع والرمزية معا.
لذلك، فإن كل احتقان حول الخلافة اليوم لا ينفصل عن ذاكرة أطول مفادها أن البوتشيشية صارت، منذ انبعاثها الحديث، جانبا من معادلة سياسية تُدير بها الدولةُ علاقتها بأكبر تنظيم معارض خرج مؤسِّسه يوما من عتباتها.
ثالثا:
في خضّم هذا الزّبد المتناثر منذ إعلان وفاة الشيخ جمال وجمود مسار خلافته، أثارتني ضمن كل ما تم تداوله، إشارة الوزير أحمد التوفيق في رسالته إلى المرشح الأول للخلافة، منير القادري بوتشيش، والتي تم “تسريبها”، إلى سيدة فرنسية تقول “الدولة” عبر هذه الرسالة، إنها تخشى على الزاوية منها.
بحثت عن هوّية هذه السيدة، فرجح لدي أن الأمر يتعلّق بسياسية مخضرمة اسمها باريزا خياري، وهي فاعلة فرنسية معروفة، بنت شبكة نفوذ روحي–سياسي على امتداد عقدين، وتردّد اسمها مرارا في محيط الزاوية، باعتبارها منخرطة فيها، وفي واجهات مغربية رسمية وشبه رسمية.
نحن هنا أمام ظاهرة لا تُقرأ بمنظار “فضول شخصي” أو “علاقات عامة”، بل كواجهة لرهانٍ استراتيجي على “الدبلوماسية الروحية” وفنون التأثير الناعم، ثم قلق من تحوّل هذا الرهان نفسه إلى منفذ لاختراق خارجي يزاحم الدولة على إدارة الرأسمال الرمزي للزاوية.
المعطيات التي جمعتها تقول إن باريزا خياري ليست اسما عابرا. بل هي سياسية فرنسية بارزة، شغلت عضوية مجلس الشيوخ الفرنسي، ونائبة رئاسته بين 2011 و2014، وقادت ملفات اقتصادية وثقافية وحملات ترافع ذات امتدادات متوسطية–مغاربية، ما منحها قدرة على “فتح الأبواب” في باريس وشبكات القرار الأوروبي.
هذا المسار، كما ترسمه مصادر فرنسية ومغربية مفتوحة، يفسّر لماذا اعتبرتها الرباط، لزمن طويل، مكسبا في “الدبلوماسية الثقافية”، ووسيطا مفيدا في أنساق اللوبيينغ الناعم.
نسجت خياري خيوطا أعمق في المغرب. حيث ربطت اسمها بمشهد الصوفية المغربية، من خلال تقاسمها شرف التأسيس والإشراف على واحد من أكثر المهرجانات الموسيقية رمزية، وهو مهرجان فاس للمويسقى الصوفية، وظهورها جوار رموز الخطاب الصوفي المغربي؛ بل قدّمَتها مقابلات صحافية مع منابر إعلامية مغربية مقرّبة من الدولة، على أنّها من أعمدة الدبلوماسية الدينية للمغرب.
وفيما يبدو أن التوجّس المغربي تجاه هذه السيدة قديم، بدليل رسالة التوفيق إلي منير القادري التي تعود إلى أكتوبر 2022، انفجرت في ربيع هذه السنة (2025) واقعةٌ غريبة: رسالة علنية من باريزا خياري إلى وزير الأوقاف المغربي، تطلب فيها تدخّل الرعاية الملكية لتمكين الشيخ جمال من عناية طبّية خاصّة.
علنيّة الطلب، ولغته المتعالية، وسياقه غير المفهوم، جعلت القراءة في الرباط أبعد بكثير من مجرّد “رجاء إنساني”.
وسائل إعلام مغربية مقرّبة من الدولة اعتبرت الرسالة “موغلة في التطفّل” على هندسة سيادية مضمّنة في الدستور عبر إمارة المؤمنين، وقرأت فيها “تلميحا بالوصاية” الخارجية على قرار تُديره الدولة مباشرة، لا عبر مراسلات عابرة للحدود.
الأبعد من الواقعة أن ذكر اسم خياري تكرّر داخل حكايةٍ أكبر: العلاقة الحسّاسة بين الزاوية والدولة. فالرسالة المسربة المنسوبة إلى وزير الأوقاف إلى منير القادري، تحذّر صراحة من “بعض الفرنسيين، منهم إعلاميون وسيدة بارزة في السياسة منخرطة في الشأن العام”، وتنبّه إلى تهديدات بنشر مواد “غير لائقة” قد تُلحق ضررا بالغا بالطريقة، وتقترح، في المقابل، ترتيبات حكامة داخلية (مجلس من الفقراء) تُعيد ضبط القرار وتُحصِّن الشيخ والطريقة من “المتمشيخين” والضغوط.
خطورة بروفايل مثل هذه السيدة، مع ما يُعتقد أنه سيطرة تمارسها على منير القادري ومحيطه، تكمن في كون المجال البوتشيشي عبارة عن شبكة عابرة للحدود، تستقبل وجوها ثقافية وسياسية أوروبية، وتُطوِّع خطاب “السلم الروحي” في قوالب قادرة على إنتاج رأي عام “صوفيّ” متعاطف مع المغرب في الغرب.
هذه المزية نفسها هي مكمن هشاشتها: كلّما اشتدّ حضور وسطاء أجانب في محيطها، ارتفع احتمال نقل مركز الثقل من السيادة الدينية الوطنية إلى منصّات التأثير الدولية.
هنا بالضبط تُصبح كل مراسلة علنية، ولو متعاطفة، عن “كيف ينبغي للملك أن يتصرّف” في شأنٍ روحي داخلي، علامة مُقلقة وليس مجرّد “لمسة إنسانية”.
وجود “السيدة الفرنسية” إذن في هذه القصة ليس تفصيلا شخصيا ولا “نظرية مؤامرة”. إنّه اسمٌ يختصر مفارقة “الدبلوماسية الروحية”: الأداة التي استثمرت فيها المملكة، طويلا، لتوسيع حزام الاعتدال وشرح “النموذج المغربي” في أوروبا؛ قد تُصبح، هي نفسها، إذا انفلتت من قواعد الضبط والسيادة، منفذًا لتنازعٍ على إدارة الشرعية الرمزية داخل البيت الصوفي.
وإذا كانت الأصول الجزائرية لهذه السيدة، وآثار الصراع المغربي الجزائري حول تحرّكاتها، كما وقفت عليها شخصيا في نماذج كثيرة سابقة، تشرعن الشك في وجود مخاوف عميقة في الرباط من استحواذ الجارة الشرقية على مقاليد أمور زاوية قلنا في البداية إنها تنطوي على بعد جيوسياسي قديم؛ فإن هناك من يربط هذه المخاوف المغربية من السيدة الفرنسية بعلاقاتها وتحركاتها المتزايدة مع طرف آخر، هو الكيان الإسرائيلي…
وتلك حكاية أخرى.