story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الدين لله والوطن للجميع

ص ص

كشفت قضية اعتقال ابتسام لشكر بعد نشرها صورة تتضمن عبارة تعتبر مسيئة للذات الإلهية بالنسبة لغالبية المغربية، ضعف قدرتنا على تدبير النقاشات، و”استثمار” الوقائع القضائية والحقوقية للتطوير التعاقدات القانونية.

نحن أمام واقعة تتعلّق بالممارسة القانونية والقضائية، تحرّكت فيها مؤسسات إنفاذ القانون، لاعتقال ومحاكمة مواطنة على خلفية نشرها صورة مستفزة.

أي أننا بصدد نقاش يتعلّق بنصّ القانون الذي استندت إليه النيابة العامة، والممارسة القضائية المرتبطة به، بينما أصرّ البعض على جرّ النقاش العمومي “من شعره” جرا، وافتعال نقاش لا أساس له ولا جدوى منه داخل حقل الدين.

لم أستطع فهم غاية هذا الإصرار الذي عبّر عنه البعض. هل علينا أن ننقسم بين “مناصرين” لله، وهو الغني عنّا جميعا، و”خصوم” له، وكأنما يحتاج خالق السماوات والأرض إلى جند من البشر ليحموه أو يدافعوا عنه؟

ثم لننظر إلى مآل هذا النقاش من داخل الحقل الديني لندرك ما سيؤدي إليه: إذا حملنا عبارة “الإساءة” للذات الإلهية إلى حقل النقاش الديني، وسألنا العلماء والفقهاء، فإننا لن نخرج عن نتيجة واحدة: اعتبار مرتكب هذه الإساءة في حكم المرتدّ.

ثم ماذا؟

ثم إننا أيها السادة والسيدات، نتوفّر على فتوى رسمية صادرة عن الهيئة العليا للإفتاء، التابعة للمجلس العلمي الأعلى، تقول إن حكم المرتدّ في الإسلام لا يخرج عن القتل. نعم، صدر هذا مرّتين، الأولى بطلب من وزارة العدل على عهد الراحل عبد الواحد الراضي، وثانية بطلب من المندوبية الوزارية لحقوق الانسان في عهد المحجوب الهيبة. وكاتب هذه السطور كان وراء الكشف عن وجود هه الفتوى قبل أكثر من عسر سنوات، وكان جواب الدولة الفوري والواضح خلال الأسبوع نفسه الذي كشفت فيه قصة هذه الفتوى، أن أدى الملك أمير المؤمنين صلاة الجمعة لذلك الأسبوع في أحد مساجد آسفي، وتم تخصيص الخطبة لموضوع حرية الاعتقاد، مع النقل المباشر عبد الإذاعة والتلفزيون.

وبالتالي يجود لنا أن نتساءل اليوم: ما الذي يبحث عنه المصرّون على إسقاط طائرة هذا الموضوع في حديقة الدين؟ هل لديهم مثلا اجتهاد خارج ما سبق لي ذكره من ربط بين الإساءة للذات الإلهية والردة، ثم ربط هذه الأخيرة بحكم “القتل” كما قالت الفتوى الرسمية؟

إن النقاش في هذا الموضوع قانوني حقوقي، يرتبط بالفعل الذي قامت به ابتسام لشكر، وهو النشر عبر وسيلة إلكترونية، ونقل رسالة يمكن وصفها بالمسيئة أو المستفزة أو ما شئنا من أوصاف، لن نختلف، لكن الأمر يتعلّق بالتأطير القانوني والقضائي لفعل النشر هذا، وهنا يجب أن يبدأ النقاش وينتهي. أما المضمون فقد يتعلّق بالدين هذه المرة، وبالوحدة الترابية أخرى، وبالملكية في واقعة ثالثة… ولا يمكننا في كل مرة يصدر فيها سلوك إما عبثي أو يرمي إلى الاستفزاز، أن نعود لفتح النقاشات البيزنطية حول مواضيع يفترض أن حولها قدر كبير من الاتفاق إن لم يكن الإجماع.

بل إن الانحراف بالنقاش إلى طرح الأسئلة غير المطروحة أصلا، حول الله سبحانه وتعالى، أو الوطن أو الملك (ثلاثي الشعار الوطني)، هو عزّ الطلب وغاية المنى لكل من يسعى إلى صرف الأنظار عن القضايا الجوهرية، وإغراق النقاش العمومي في متاهات الهوية والرموز بدل مساءلة السياسات والخيارات.

وإذا كانت الحجة الوحيدة التي يدلي بها المصرّون على ربط الموضوع بالنقاش الديني، هو التنصيص الدستوري على إن الإسلام هو دين الدولة، وكون الدين من مصادر التشريع؛ فإن الدستور نفسه نصّ على التزام المغرب بالمواثيق الدولية وضرورة ملاءمة التشريعات الوطنية مع المعاهدات التي صادق عليها المغرب.

الأسئلة الحقيقية التي ينبغي طرحها في ارتباط بهذه الواقعة، تتعلّق بجدوى وضرورة تجريم مثل هذه الممارسات، هل يحقّ لنا ذلك أم لا؟ وإذا كان الجواب هو نعم، بأية محاذير وضمانات ينبغي أن يتم هذا التجريم؟ وما هي القواعد التي ينبغي لنا التوافق حولها لمنع مثل هذا التجريم، لممارسات ووقائع لا شكّ في مجانبتها للصواب، من فتح الباب أمام قمع الحريات والمزيد من كتم الأنفاس وتوظيف هذه الورقة لمنع تعبيرات أخرى تندرج ضمن حرية الرأي والتعبير.

والجواب الذي تنتهي إليه أبسط مراجعة للمرجعيات القانونية والقضائية الدولية والإقليمية، هو أن من حقّ الدول تقييد ممارسة حرية الرأي والتعبير، لكن هذا التقييد بدوره مقيّد بكثير من القواعد والشروط، والعقوبة في مثلا هذه الحالة الخاصة بابتسام لشكر، لا يمكن أن تصل إلى سلب الحرية والسجن، ولا توجد أية ممارسة قانونية أو قضائية دولية يعتدّ بها، تجيز ذلك.

نعم، كل المرجعيات الدولية، بدءا من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تنصّ على حقّ الدول في تقييد ممارسة حرية الرأي والتعبير. لكن هذه المرجعيات نفسها، وبشبه إجماع الوثائق المعتمدة فيها، نحت في العقود الماضية نحو منع الدول من تجريم ومعاقبة التعبيرات بمبرر الإساءة للأديان أو “التجديف” (Blasphemy Laws).

وتربط كل النصوص والأحكام القضائية المرجعية في هذا المجال، التجريم والعقاب بالتحريض على العنف والكراهية وإلحاق الضرر بالغير. أما معاقبة التعبير نفسه وفي حد ذاته، فلا أساس له في أي من المرجعيات القانونية والقضائية الدولية والإقليمية.

بل إن ما يعرف ب”خطة عمل الرباط“، وهي وثيقة أصدرتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان عام 2012 بعد اجتماع للخبراء احتضنه المغرب في 2011، شدّدت على أن القوانين الجنائية يجب أن تُستعمل فقط في حالات قصوى، عندما يكون الكلام تحريضا مباشرا وقويا على الكراهية أو العنف أو التمييز.

ووضعت الوثيقة ما يعرف بالمعيار السداسي لتحديد ما إن كان التعبير يستحق العقاب أم لا، والذي يتمثل في العناصر الستة التالية، وليس لأن التعبير جارح أو مهين فقط:
• السياق: أي الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة.
• المتكلم: مدى تأثيره ونفوذه.
• النية: هل هناك قصد فعلي للتحريض؟
• المضمون والشكل: طبيعة الخطاب ولغته (مباشرة، رمزية، ساخرة…).
• المدى: وسيلة النشر، الجمهور المستهدف، حجم الانتشار.
• الاحتمال والخطر: هل هناك احتمال حقيقي لوقوع ضرر أو عنف؟

كما أن التعليق 34 للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، يقول إن قوانين “التجديف” أو “إهانة الأديان”، لا تتوافق مع العهد الدولي إذا كانت تجرّم مجرد النقد أو السخرية أو التعبير غير المحبب. ويضيف التعليق نفسه أن الاستثناء الوحيد هنا يتمثل في “التحريض المباشر على التمييز أو العداوة أو العنف ضد أشخاص بسبب انتمائهم الديني”.

أما من حيث الممارسة والأحكام الصادرة عن المؤسسات القضائية المعتدّ بها دوليا، فإن القرارات الصادرة عن المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان (IACHR)، لا تخدم بتاتا دعاة التجريم والعقاب في هذا المجال، لأنها لا تقبل ذلك تحت أي مبرر أو تسويغ.

بينما المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، تسمح للدول بتقييد التعبيرات المرتبطة بالدين، إذا كان الهدف هو حماية حقوق الآخرين أو “السلام الديني”.

فقد أيدت المحكمة حكما قضائيا نمساويا قضى بإدانة معهد ثقافي بتهمة “ازدراء عقائد دينية”، بعد اعتزامه عرض فيلم يتضمن مشاهد اعتُبرت مهينة للمعتقدات الكاثوليكية (يسوع، مريم العذراء، الله)، فقامت السلطات بمصادرة النسخ ومنعت العرض.

ورأت المحكمة الأوربية أن هذا التدخّل هدفه حماية حقوق الآخرين (المؤمنين)، وضمان السلم الديني في منطقة يغلب عليها الكاثوليك. كما أكدت على “هامش التقدير” الواسع للدول في قضايا حساسة مرتبطة بالدين، شرط أن يكون التدخل متناسبا.

وفي تركيا، الدولة المسلمة، أيدت المحكمة الأوربية قرار السلطات تغريم شخص أصدر كتابا يحتوي عبارات شديدة الانتقاد للنبي محمد (ص)، اعتُبرت مهينة لمشاعر المسلمين واعتبرت المحكمة أن العبارات التي تضمنها الكتاب لم تقتصر على نقد عقائدي بل بلغت حدّ الهجوم المهين والمسيء على مؤمنين، وأن الغرامة كانت عقوبة متناسبة لحماية “حقوق الآخرين” وحفظ “السلم العام”.

كما أيدت المحكمة الأوربية السلطات البريطانية منع عرض فيلم “Visions of Ecstasy” الذي يتضمن مشاهد جنسية مع القديسة تيريزا والمسيح المصلوب. ورفضت هيئة تصنيف الأفلام البريطانية منح الفيلم شهادة عرض، وهو ما دفع المخرج إلى اللجوء إلى القضاء فخسر دعواه، حيث اعتبرت المحكمة أن حماية المشاعر الدينية المسيحية هدف مشروع، وأن المنع لم يتجاوز هامش التقدير الممنوح للدولة.

والأمثلة في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة.

لكن إذا كان النقاش يتم بنية حسنة وبهدف التطوير والتجويد، فإننا لا نحتاج إلى التذكير بكون المرجعيات الدولية، التي هي ملك للإنسانية وليست “غربية” كما يختزل البعض، تحرص دائما وفي جميع القرارات والوثائق، على تأكيد سموّ الحرية على التقييد، وضرورة توفر الشروط الثلاثة الأساسية لكل تقييد يمسّ حرية التعبير، أي أن يتم ذلك بالقانون ولهدف مشروع وعند الضرورة فقط.

كما أن، وهذا هو مربط الفرس، كل النصوص والقرارات القضائية الدولية والإقليمية، لا تتضمن ما يجيز وصول العقوبة المترتبة عن تجريب شكل من أشكال التعبير، إلى درجة السجن وسلب الحرية. بل إن أقصى ما وصلت إليه الحالات التي أجازت فيها قوانين وقرارات دولية معاقبة تعبيرات مرتبطة بالدين، كان هو التغريم، بينما تميل جل الحالات الأخرى إلى إنصاف الضحايا وتمكينهم من التعويض المدني.

فهل من دليل مضاد؟