الدولة العاقلة

شاهدنا أمس الأربعاء 26 فبراير 2025، مؤشرين اثنين ينبئان باستمرار “الدولة العاقلة” في الوجود رغم كل ما اعتلى وجهها من طبقات الاستبداد والتوحش واستئثار القلة القليلة بالسلطة والثروة.
رأينا مشهد الشاب عبد الإله المعروف بلقب “الجابوني”، وهو يحظى باستقبال والي مراكش ويخرج من اللقاء سعيدا مبشّرا بسقوط القرارات التي توعّدته بها القوات العمومية بعدما تسبّب في زلزال هزّ أركان أسواق السمك في المغرب؛ ثم بعد ساعات قليلة أطلّ علينا وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، وهو يتلو الرسالة الملكية التي تدعو إلى الامتناع عن أداء شعيرة ذبح الأضاحي في عيد الأضحى المقبل، رفقا بالفقراء من جهة، وحماية للقطيع الوطني من المواشي من جهة ثانية.
هذا القرار الأخير يحمل أكثر من إشارة ودلالة، وينطوي على رسائل سياسية عميقة ينبغي التقاطها، فلو كان رئيس الحكومة الحالي يعتبر أنه في موقع تمثيل وتجسيد للإرادة الشعبية، لتولّى بنفسه عرض المعطيات الكارثية التي قدّمها (أو جيء به لتقديمها) وزير الفلاحة على هامش الندوة الصحافية للناطق الرسمي باسم الحكومة الأسبوع الماضي، على النظر الملكي، والتمس اتخاذ القرار المناسب للبشر والبهائم.
هذا هو منطق السياسيين الذين يغلّبون الصالح العام، وينبغي لهم تجنيب المغاربة شهورا من التوتّر والاضطراب والضغط النفسي، كنا سنعيشها لكي تحافظ زمرة من الشناقة على الأرباح التي أدخلتها في حساباتها مسبقا، واستعدت معها لتكرار سيناريو الركوب فوق ظهور المغاربة لاستيراد المواشي بدون رسوم، وتحصيل الدعم العمومي، ومن ثم تخزينها عوض عرضها في أسواق العيد، لتباع بعد ذلك بالسعر المضاعف في سوق اللحوم الحمراء.
بعض الأصوات سارعت إلى إشهار ورقة الكسّابة على اعتبار أنهم سيتضررون من عدم إقامة شعيرة عيد الأضحى. وهي أصوات تعود جزئيا إلى بعض النوايا الحسنة، لكنها في جزء آخر تعود إلى بعض محترفي التضليل وخلط الأوراق.
أولا، نحن أمام قرار تدبيري، ولا يمكن للدولة التي أقدمت عليه عبر مؤسسة إمارة المؤمنين، أن تقف متفرّجة على انعكاساته المحتملة. ولابد للحكومة من اتخاذ الإجراءات الضرورية لدعم أي متضرّرين محتملين من إلغاء شعيرة ذبح الأضاحي هذه السنة، بتوفير الأعلاف والرعاية البيطرية…
ثم إن الجميع يعرف أن هناك نقص مهول في سوق اللحوم الحمراء، ولا أحد ينكر أن السعر مرتفع لمستويات قياسية وغير مسبوقة. ودون استحضار ما ورد على لسان وزير الصناعة والتجارة، رياض مزور، من وجود مضاربين يحتكرون هذا السوق، وهامش ربح يصل إلى 40 درهما في الكيلوغرام الواحد؛ فإن سوق اللحوم الحمراء تستوعب بشكل مثالي أي عرض يمكن تقدمه حاليا من الأغنام والماعز، دون أن يسبّب ذلك أية خسارة للكسابة الحقيقيين.
وحدهم “الشنّاقة” ممن كانوا يعوّلون على مناسبة العيد لتحقيق أرباح قياسية سيتضررون، ونعم الضرر هو… “هحّ فيهم”.
وهناك بعد آخر لهذا القرار الجريء، وهو الإقرار الرسمي والصريح، بفشل السياسات العمومية التي نفّذت على مدى العقدين الماضيين في مجال الفلاحة، بدليل هذا الكساد الذي وصل إليه سوق اللحوم والقطيع الوطني من المواشي.
بل إن الدلائل عديدة وتشمل كل مصادر الغذاء اليومي للمواطنين المغاربة، وهو ما يرقى إلى مرتبة الفشل الذي أقرّ به الملك في خطب سابقة حول النموذج التنموي ومحاربة الفقر والهشاشة…
ومن عجيب الصدف، أن قرار الدعوة للتخلي عن ذبح الأضاحي في العيد المقبل، جاء في اليوم نفسه الذي خرجت فيه الجماهير إلى شوارع مراكش، لتهتف باسم “عبدو”، ذلك الشاب الذي كشف زيف الواقع الذي ظلت السياسات الرسمية تحميه في مجال سوق الأسماك.
والعجيب في الأمر أن كلا القطاعين كانا منذ قرابة عقدين من الزمن، تحت المسؤولية المباشرة لرئيس الحكومة الحالي، عزيز أخنوش، والذي ظلّ يسوّق الوهم للدولة والمجتمع، تحت عناوين: “المغرب الأخضر” و”أليوتيس”، ليوصلنا في النهاية إلى وضع أقرب إلى المجاعة.
أخشى أننا ومنذ 2021، أي منذ تشكيل الحكومة الحالية، أمام وهم جديد يتم تسويقه لنا باسم “الدولة الاجتماعية”، بينما لا نرى في الواقع سوى دولة “تحسّن” لنا “بلا ما”، وتقتادنا تباعا نحو التحلل والانهيار، بما أن مؤشرات البطالة والفقر واليأس تتفاقم.
ما أحوجنا إذن إلى وجه “الدولة العاقلة” الذي رأينا أمس، والذي حمل والي مراكش على استقبال الشاب التكتوكي الذي أذاق الفقراء حلاوة السردين من جديد، مُبعدا بذلك شبح أحداث عاشها فريد شوراق عندما كان عاملا على الحسيمة، وتحوّلت إلى مأساة سياسية بسبب “طحن” بائع سمك في شاحنة للنفايات.
وعندما أقول “ما أحوجنا” فإنني لا أقصد التمني والاستجداء، بل أشير إلى أن هذه الدولة ممكنة، وعلى المجتمع بكل قواه الحية (الحقيقية لا تلك التي باركت التطبيع)، أن تقتحم معترك السياسة والفعل الحقوقي والمدني، لتعزز صفوف هذا المعسكر داخل الدولة، وتساهم في طرد ذيول “البزناسة” و”الشناقة” الذين يحاولون إيهامنا بأنهم سيطروا بشكل تام على مقاليد الحكم.