الحلم اللامفكر فيه.. حرية معتقلي “كديم إزيك”
يتابع الصحراويون في صمت أخبار العفو، ينتظرون بصيص من الضوء من ثقبِ أملٍ يخترق جدار الصمت الرهيب، ثقبٌ يعلن انبلاج الفرح بحرية المعتقلين السياسيين الصحراويين وفي مقدمتهم معتقلو “كديم إزيك”، تلك المجموعة التي تقبع منذ أزيد من عقد من الزمن خلف القضبان، مفرقة على خارطة سجون المغرب.
إنهم مجموعة من النشطاء السياسيين الذين كانت تتفاوض الدولة معهم إبان حراك مخيم “كديم إزيك” سنة 2010، حين بدأت مجموعة من الشباب الصحراوي احتجاجا سلميا على مشارف العيون، والذي انتهى بمخيم يغص بعشرات الآلاف من الصحراويين، الذين نزحوا خارج مدينة العيون، ولم يطالبوا سوى بالكرامة والعدالة الاجتماعية.
وفي غضون أيام قليلة منذ بدايته، نصبت في “كديم إزيك” أزيد من 20 ألف خيمة، ضمت أكثر من 28 ألف صحراوي؛ شاركوا في ذلك الاحتجاج الذي اعتبر عالم اللسانيات الأمريكي، نعوم تشومسكي، أنه “كان بداية الربيع العربي”.
مر شهر لم يتوقف خلاله اعتصام المخيم عن النمو، وبعد جولات من المفاوضات مع شباب المخيم، أرسلت الدولة المغربية الجيش والشرطة للتدخل. وقاموا بتفكيك المخيم باستخدام القوة، تحت جنح الليل، مما أدى إلى واحدة من أعنف الأحداث المعروفة في الصحراء.
أثناء عملية الاقتحام العنيفة، أحرقت آلاف الخيم، واعتقل مئات الصحراويين، وأصيب آلاف الأشخاص ووقع الضحايا في الطرفين، بعنف غير مبرر، كما وقعت أعمال عنف في العيون، وخلال الأسابيع التالية، اضطهدت السلطات المغربية واحتجزت مئات الصحراويين المتهمين بالمشاركة في الاحتجاجات.
كان مطلب “مخيم الكرامة” واضحًا، حق الصحراويين في الوصول إلى مواردهم ووضع حد للتهميش والهشاشة التي عانوا منها لعقود من الزمن. كان مطلبًا مشروعًا يتمثل في الكرامة والعدالة الاجتماعية، والحق في الشغل والقطيعة مع الريع.
تجمع الصحراويون للاحتجاج على سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مثل انعدام الشغل، والافتقار إلى السكن اللائق، والتغطية الصحية، وللمطالبة بحقوق بسيطة وأساسية، الصحة، السكن والعمل… وكان المخيم هو التعبير الواضح لرفض سياسة التهميش والحرمان من أبسط الحقوق.
أتذكر تلك المأساة التي تلت تفكيك المخيم، ذلك الرعب الذي عشناه في بيوتنا، وكيف أصبحت العيون مدينة أشباح، وكيف بقينا في المنازل خوفا من الاعتقالات التعسفية التي جرت في كل شبر وكل بيت.
لقد تم اعتقال المئات من الصحراويين وتعرضوا لجميع أنواع الانتهاكات، تحت النظرة الصامتة وتقاعس المجتمع المغربي كله، وحدها “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، من أدانت تلك الانتهاكات، وتكلف الإعلام الرسمي وغير الرسمي بشيطنة الصحراويين، وجعلهم قتلة وسفاحين وخونة.
بعد شيطنتهم، واعتقالهم في غياب الأدلة، وبعد ارتكاب انتهاكات جسيمة في حقهم وسوء معاملتهم، أدين أكثر من 20 ناشطا سياسيًا، بعضهم كانوا قادة الحراك الاجتماعي ذلك، في محاكمتين؛ عسكرية ومدنية، وتم إطلاق سراح أربعة منهم، وتوفي أحدهم، وفر أحدهم وحصل على اللجوء في إسبانيا، وهو محكوم بالسجن المؤبد غيابيًا، وحُكم على الباقين بالسجن المؤبد وبأحكام بالسجن لمدد تتراوح بين 20 و25 عامًا وحتى 30 عامًا.
مرت سنوات طويلة، وما زالت مجموعة الناشطين المسجونين في قضية “كديم إيزيك” تقضي أحكامًا ظالمة، تعاني أسرهم التنقل والمشقة والفقر، معتقلون جلهم في حالة صحية هشة بشكل خاص بسبب الانتهاكات والتعذيب الذي تلقوه، لمدة عامين من التحقيق والتعذيب بشهادتهم هم أنفسهم.
خلال المحاكمة الثانية، بمحكمة سلا، وفي مرافعته، قال المعتقل الشيخ بنكا للقاضي، “أحيي المحامين المدافعين عن الضحايا، وأحترم فيهم استماتتهم في الدفاع عن موكليهم من منطلق الدارس للقانون، وإن كنت من منطلق المدافع عن حقوق الإنسان أستنكر عليهم إعدام قرينة البراءة التي هي الأصل، وهي مبدأ دستوري، ولكن تصريحاتهم أدانتنا حتى قبل إصدار حكمكم السيد الرئيس، والمعروف أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته”.
في ذات المرافعة، تحدث الشاب بلغة واضحة ومفهومة، مدافعًا عن نفسه، والكل يعرف أنه ومن معه لا يجرؤون على قتل دجاجة فما بالك إنسان، “إنني أنفي هذه التهم الملفقة لي جملة و تفصيلا، وأجدد تضامني المطلق مع عائلات الضحايا، وهذا ليس موقفا لحظيا، فقد عبرت عن ذلك أمام المحكمة العسكرية، وقلت أنني أتألم لألمهم و أبكي لبكائهم، وأني بريء من دماء أبنائهم براءة الذئب من دم يوسف، فذاك يوسف النبي تكالبت عليه الإخوة ورموه في الجب، ونحن يوسف البشر تكالبت علينا خفافيش الظلام، وزوار الفجر ودبجوا لنا وابلًا من التهم الكاذبة والواهية لحجز تأشيرة عبورنا إلى المقصلة”.
الشيخ بنكا، وفي قاعة المحكمة وبصوت عالٍ شدد على براءته ومن معه، حيث روى أنه لم يسأل قط عن ما وقع من أحداث بمخيم كديم إيزيك “ولم توجه لي أي تهمة، و كل ما تضمنته محاضر الضابطة القضائية هو محض افتراء و بهتان من وحي خيال واضعيه.. لقد أبصمت تحت الإكراه على المحاضر دون الاضطلاع عليها ونفس الشيء حدث مع دفتر التصريحات.. كما قلت لكم خضعت لشتى أصناف التعذيب؛ كتجريدي من ملابسي وسكب البول علي وحرماني من النوم وضربي بالعصي والدبابيس على مختلف أنحاء جسدي، وتعليقي وتعرضي لشتى المعاملات القاسية مما تسبب لي بكدمات وجروح على مستوى الرأس والجبهة والأنف وباقي مختلف أعضاء الجسد”.
لقد وقعت أخطاء في هذا الملف، سقط ضحايا من الأبرياء، صحراويون عزل، رجال أمن، بل كانت خسائر مادية كبيرة في ذلك اليوم المشؤوم، ولكن ما لم يطرح حينها، فهو سؤال من المسؤول؟ ولماذا تفاوضت الدولة مع “لجنة الحوار” المنبثقة عن النازحين في ذلك المخيم، لماذا لم تقمعهم منذ أول يوم؟ هل عسكرة المدن الصحراوية شيء منيع؟ لا، فهي شيء روتيني، لماذا كان إلياس العماري يفاوض باسم الدولة في ذلك الملف؟ من أعطاه تلك الصفة؟ وما علاقة حمدي ولد الرشيد بهذا كله؟ ولماذا رفضت العدالة استدعاء أسماء وازنة في الدولة كشهود؟!.. لا جواب!… المهم هو أن المعتقلين مجرد رزمة من الإنفصاليين، مرتزقة، خونة وعليهم من المخزن والوطن ما يستحقون!.. والعدالة العرجاء تكفينا طي الملف، ومشقة طرح السؤال وانتظار الجواب!.
أيها الناس، إن ما تجهله العامة في ربوع المغرب، هو الأخطاء الجسام، والجرائم الفادحة التي ارتكبها المغرب في حق الصحراويين.. فإذا كنا نتكلم عما وقع في الريف بصراحة، فإن من العدل بمكان أن نقول ذات الصراحة في ما حدث بالصحراء، فقد قصفوا بالنبالم والفوسفور دون رحمة، تمت إبادتهم دون حمرة خجل، ولم يفتح هذا الملف بعد، ما فتح هو ملف الاعتقالات الخجول والذي لم ينقي الجراح بقدر ما حاول طمسها.
أنا ضد العفو عن قاتل، مهما كانت صفته، حتى لو كان قياديًا في جبهة البوليساريو، وعاد ملبيا نداء “الوطن غفور رحيم”، يبقى قاتلًا، وفي المغرب مسؤولون قتلة كانت لهم حظوة تلك العودة في ذلك الغفران، ولكن معتقلي “كديم إزيك”، أبرياء حد اليقين… قد يقول أحدهم أن العاطفة تدفعني لأتحدث بوثوقية، وجوابي هنا: نعم!، لأن ما أعرفه حد الوثوقية هو أن النعم الأصفاري اعتقل قبل اقتحام المخيم، وأن الشيخ بنكا اعتقل وهو نائم، وأكد ذلك في المحكمة للقاضي وهو يجيب عن سؤال “ماذا وجدوا في حوزتك؟”، حيث قال “وجدوا بضع أحلامٍ راودتني في النوم”… فمتى كانت الأحلام جريمة تساوي 30 سنة سجنا نافذًا من عمر الإنسان؟
بعد أكثر من عقد من “قضاء أحكام قاسية في السجون المغربية”، كما قال عنهم “فريق الأمم المتحدة المعني بالاعتقالات التعسفية”، والذي طالب وحث المغرب على “إطلاق سراحهم على الفور”، بعد أن خلص إلى أنهم جميعًا “محتجزون بشكل غير قانوني”، حان اليوم وقت معانقتهم للحرية، والتطلع إلى نور السماء وتباشير الصباح خارج مستطيل الزنزانة.
الكل في الصحراء مشرئبة أعناقه لاحتضان هذه المجموعة، آباء، أمهات، أبناء، إخوة، أقارب وأصدقاء، كلهم بحت حناجرهم برفع النداءات العديدة يطالبون بالإفراج عنهم، إنهم معتقلون سياسيون، يدفعون ثمن قناعاتهم وأفكارهم التي لا تواجه بأزيز بوابات السجون، بل بالأفكار، بقرار سياسي يعيد الأمور إلى نصابها، يفتح قوس الديموقراطية على مصراعيه، يتقبل كل الاختلافات ويعالج القضايا بما في الإنسانية من إنسان، فلغة النار والحديد لا تلد إلا الرماد والأحقاد.
الكل ينتظر أن يعم الفرح مجتمعًا قبليًا بعضه من أصلاب بعد، لديه أكثر من عشرين معتقلا في السجون من عقدٍ ونيف من زمن التسييج والاعتقال؛ من حقنا أن نفرح فـ”نحن أيضا لنا بواكي سيدي الرئيس، هل حتى معاناة عوائلنا تريدون طمسها؟ كل هذا من أجل ماذا؟ أمن أجل فكرة وحلم ندافع عنه بنضال سلمي نزيه؟، الأفكار يا صاح لا تقارع إلا بالأفكار، فالتعذيب والتنكيل وتلفيق التهم والزج بنا في السجون، لن يقتلع الفكرة من رأسي، بل سيكون كل هذا تربة تنمو فيها الفكرة وتترعرع”، هكذا رد الشيخ بنكا على القاضي بعدما قاطعه.
فإذا كان اعتقالهم، والتكالب على شيطنتهم قد حرمهم وحرم الصحراويين من حظوة كونهم أول مثال للنضال السلمي من أجل الدفاع عن الحقوق الأساسية، فذلك شرفٌ ستثبته ثرثرة التاريخ، ويعرف العالم أن ذلك النزوح تحت الخيم المهترئة ما كان سياسيًا بل تم تسييسه، لـ”حاجة في نفس يعقوب قضاها”… ولكن ما لا يجب أن يكون هو استمرار هذه المعاناة، فقد تعب الناس وجفت المآقي من الدموع، والحناجر اخشوشبت بالصراخ غير المجدي.