الجامعة و”قلالشها”

وأنا أقترب من موضوع الأستاذ الجامعي المعتقل بشبهة الاتجار في الشهادات الجامعية، وفي ظل “اشتعال” هذا الموضوع ورواجه في المنصات الرقمية، أعرف أن التزحلق في منحدرات الشعبوية ودغدغة المشاعر الجماعية الغاضبة، عن حق ربما، هي أسهل ما يمكنني القيام بها في هذا التعليق؛ لكننني أعلم أيضا، ومع استحضار الخلفية المهنية والقواعد الأخلاقية، أن هناك جلسة ستنعقد اليوم للنظر في الطعن المقدّم في قرار قاضي التحقيق باعتقال هذا الأستاذ وتقييد حرية متّهمين آخرين، وأن الملف في طور التحقيق الإعدادي، وأن جميع من ذُكرت أسماؤهم فيه هم أبرياء بقوة الدستور والقانون…
إنني وبكل اختصار لست من المتعطّشين لدماء الأبقار التي تسقط فتنهال عليها السكاكين، ولا ممن يطبّعون مع الفساد ويتعايشون معه وربما يربطون معه صداقات أو يتزلّفون له وأحيانا يمجّدونه ويتملّقون له، وحين ينكشف أمره يتحوّلون إلى أنبياء أتقياء ويتبرؤون منه.
علينا أن نحمل أكثر من قناع واحد للنفاق كي نزعم أننا فوجئنا بخبر اعتقال أستاذ جامعي بشبهة الاتجار في الشهادات العليا، أو الوقوف على احتمال وجود أشخاص يحترفون مهنا حيوية وحساسة، مثل المحاماة والتوثيق والقضاء، عبر شهادات مشكوك في صحّتها؛ ليس لأن الجميع فاسد أو متورّط، بل لأننا نعرف جميعا وبدون استثناء، أن الجامعة مثلها في ذلك مثل باقي أنشطتنا ومظاهر حياتنا الاجتماعية، تضم بين صفوفها فاسدين وغشاشين وسماسرة ومجرمين… لكننا نتغافل عن جوهر المشكلة وأصل الداء.
لقد تفرّجنا جميعا على إفساد بنيوي للجامعة، بالطريقة والأدوات نفسها التي تم بها إفساد الأحزاب السياسية والصحافة، أي المنافذ التي يصرّف من خلالها المجتمع رؤيته النقدية ومطالبه وتصوّراته حول الدولة.
تفرّجنا منذ عقود على عملية تدجين شاملة، تحوّلت معها الجامعة من معقل حصين للرأي المستقل والنقدي تجاه سلوك الدولة (ويمكنكم مراجعة حلقات برنامج “ضفاف الفنجان” لتلاحظوا كيف كان الأستاذ الجامعي معارضا بالضرورة، وهذا هو الطبيعي بما أن النظام السياسي ليس ديمقراطيا)، إلى ملحقات إدارية تتصرّف مع أبسط نشاط طلابي لا ترضى عليه السلطة، كما يتعامل أصغر رجل سلطة مع الباعة الجائلين: إغلاق للأبواب وقطع للتيار الكهربائي وتعليق للدراسة.
هذا هو الفساد الأصلي الذي أخرج الجامعة من أدوارها العلمية والنقدية الطبيعية، وأدخلها دائرة الريع والمحسوبية والامتيازات، وبات معه منصب الأستاذ الجامعي، في بعض الحالات، بمثابة “لاكريمة” التي تُمنح بمنطق الولاء لا الاستحقاق، حتى تحوّلات المناصب الجامعية إلى غنائم يوزّعها القادة السياسيون على المقرّبين وشيوخ الشبيبات الحزبية.
كلّنا تفرّجنا على هذا المسلسل المقرف، وبالتالي لا داعي لأن نأتي اليوم لتمثيل دور البريء الذي فوجئ بخبر اعتقال أستاذ، احتياطيا، بشبهة الاتجار في الشهادات الجامعية.
بل إن مثل هذه القضايا باتت توظّف للتعتيم على ما تبقى من نبض الجامعة الحقيقي، وتعميم السواد وتصوير الجامعة كما لو كانت خالية من الأساتذة الشرفاء والطلبة المجتهدين. وهذا جزء من مسار طويل كان يرمي إلى إفراغ مثلث الجامعة والحزب والصحافة من كل ثقة أو مصداقية.
شبهة “المال مقابل الماستر” التي تفجرت هذا الأسبوع في جامعة ابن زهر بأكادير ليست أول قضية من نوعها، وربما لن تكون الأخيرة، لكنها كشفت، مرة أخرى، هشاشة علاقتنا بالحقيقة، وقابليتنا الدائمة للانفعال الجماعي بدل التحليل الرصين.
المثير في هذه القضية ليس وجود أستاذ جامعي متهم بالاتجار في الشهادات العليا، بل في الطريقة التي تحوَّل بها الفضاء العمومي، ومنصات التواصل، إلى ساحة انتقام بلا قواعد، واختلط الاتهام بالتشهير، والتحقيق القضائي ببلاغات الغضب الأخلاقي.
خطورة ما يحدث اليوم أن من يُفترض فيهم حماية قرينة البراءة، من قضاة ومحامين وأساتذة وصحافيين، انخرط بعضهم في حفلة قصف جماعي شملت المتهم وأفراد عائلته وزملاءه وطلبته، لا لشيء سوى لأن أسماءهم وردت عرضا في لوائح طلبة الماستر المعني، أو في شائعات لا مصدر لها.
شخصيا، لو كنت مكان قاضي التحقيق المكلّف بهذا الملف، لأمرت باعتقال كل من يتحدّثون عن صك الاتهام على أنه حقيقة، ويسردون القصص والتفاصيل والمعطيات التي يزعمون أنهم كانوا على علم بها. والتهمة هي المشاركة في الأقصى وعدم التبليغ عن جريمة في الأدنى.
بل إن وزير العدل نفسه، عبد اللطيف وهبي، سمح لنفسه أمس، ومن فوق منصة البرلمان، أن يتحدث عن “فضيحة” مشيرا إلى قضية ما زالت بين أيدي القضاء، وقدّم اتفاقية رسمية بين وزارة العدل وجمعية كان يرأسها الأستاذ المتهم على أنها دليل إدانة للجمعيات المحاربة للفساد، ضاربا عرض الحائط بمبدأ دستوري أصيل: الفصل بين السلط، واحترام استقلالية القضاء، وقرينة البراءة.
في زحمة هذه الانفعالات، تغيب الحقائق الأساسية. فالقضية تفجّرت مباشرة بعد تعيين الأستاذ المتّهم منسقا إقليميا لحزب الاتحاد الدستوري (شبهة الخلفية السياسية واردة في لحظة رسم للخريطة الانتخابية المقبلة)، وبدايتها تعود إلى خلاف تجاري حول عقار بقيمة مليار و800 مليون سنتيم بين الأستاذ الجامعي والمبلّغ المفترض، وهو موثّق معتقل على ذمة قضية أخرى.
هذا الأخير صرّح بحصوله على ماستر دون حضور أو امتحان، وذلك مقابل 25 مليون سنتيم. أي أن القضية كلّها بُنيت على هذا التصريح، بينما رواية الأستاذ المتّهم تؤكد أن الطالب (الموثّق) اجتاز المباراة الكتابية والشفوية، وحضر المحاضرات، واجتاز الامتحانات، بل ناقش بحث التخرج بحضور لجنة علمية. وبين هذه الرواية وتلك، توجد العلاقة المالية بين الطرفين، والتي قُدّمت من طرف الأستاذ على أنها جزء من صفقة عقارية فاشلة، لا “منحة” جامعية مدفوعة.
أما الخلفية الأخلاقية لما يجري، فهي أكثر تعقيدا مما يُعرض في الصفحات الزرقاء. فالأستاذ المتهم كان موضوع اتهامات قديمة تعود إلى سنة 2013، حين نُشرت شهادات لطالبات يتحدثن عن تحرش وابتزاز. لكن حتى تلك الوقائع ظلت عالقة في ضباب من التراشق، دون أن يُحسم فيها قضائيا، وعندما بادر شخص قبل بضع سنوات إلى اتهام الأستاذ المعتقل بشكل مباشر، رفع هذا الأخير دعوي قذف وتشهير ضده وربحها.
أي أن القضاء نفسه الذي اعتقله اليوم برأه بالأمس.
واليوم، يجد الرأي العام نفسه أمام نسخة جديدة من رجل ظل لسنوات فاعلا أكاديميا وسياسيا، قبل أن يتحوّل فجأة إلى واجهة لحملة أخلاقية لا تراعي لا قرائن ولا محاضر.
قضية “مافيا الماستر”، كما سمّتها بعض العناوين، ليست مجرد ملف فساد جامعي، بل اختبار جماعي لمصداقية الدولة، وقدرتها على محاسبة الفاسدين دون سحق البريئين، وعلى حماية مؤسساتها من الداخل دون أن تنساق وراء محاكمات فيسبوكية لا ترحم ولا توقّر دستورا ولا قوانين ولا مساطر.
أتفهّم جيّدا غضب البعض لظهور شبهة فساد جامعي، لكنني أقلق أكثر للهشاشة التي تبدو على بنائنا الدستوري والقانوني والأخلاقي. نحن في حاجة إلى عدالة تُنجز التحقيق لا منصّات تستبق نتائجه. وفي حاجة إلى رأي عام لا يعيش على الإثارة، بل يتغذى على العقل.
ونحن أيضا في حاجة، قبل كل شيء، إلى جامعة تُنظّف نفسها بنفسها، لا أن تنتظر بلاغات الشرطة وأوامر قضاة التحقيق لتفعل ما كان يجب فعله منذ سنين.
ومن أراد أن يعيد للجامعة اعتبارها، فليبدأ أولا بقبول الحقيقة كاملة: أن في الجامعة فخرا وعارا، كفاءة وانحرافا، نخبة وسماسرة…
وأن كل محاولة لتنظيفها، لن تتم بجلد الذات أو بالانتقام الجماعي، بل بالوعي العميق بأننا مسؤولون، كلٌ من موقعه، عن ما آل إليه حال هذه المؤسسة التي لم تعد قادرة على حمل اسمها الثقيل… إلا بقلالشها.