story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

التعاقد يسقط الدستور

ص ص

كأي جرح لا يستفيد من التنظيف والتعقيم اللازمين، تستمر “دمّالة” التعاقد تقيّحاتها التي تفرز السموم في جسم الدولة والمجتمع.
فبعد فوضى السنوات الماضية بين اضراب وتوقيف وترقيع، وشهور التعليق شبه الشامل للدراسة في عموم المدارس العمومية منذ بداية الموسم الدراسي الحالي وحتى وقت قريب، جاء الدور على الثوابت الجامعة التي ينبغي عليها التعاقد السياسي، وفي مقدمتها الدستور.
في سياق الترقيعات المتتالية التي تقوم بها الحكومة في هذا الملف، صدرت أمس في الجريدة الرسمية نصوص قانونية-ترقيعية جديدة، تتمثل في تعديلين يهمان كلا من القانون المحدث للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، ونظام المعاشات المدنية، بهدف رفع آخر لبس حول وضعية الأساتذة “المتعاقدين سابقا”، وتسميتهم بصريح العبارة كموظفين وإخضاعهم بالكامل لنظام المعاشات المدنية على غرار باقي موظفي الدولة.
سنترك جانبا هذا التدبير المتخبط الذي تصرّ عليه الحكومة، ونتوقف عند واحدة من الخسائر الفادحة التي خلفها هذا التدبير، من خلال المساس بجوهر الوثيقة الدستورية وأهم ما يتحقق من وجودها، أي الفصل بين السلطات والتمكين للإرادة الشعبية من خلال جعل تشريع القوانين اختصاصا حصريا للبرلمان المنتخب.
وهي في طريقها نحو الاستجابة لما اتفقت عليه من نقابات الأساتذة المحتجين، قامت الحكومة نهاية يناير الماضي بإصدار مرسوم يلغي مرسوما بقانون كانت قد أتت به إلى البرلمان ووافقت عليه اللجنتان المختصتان في مجلسي البرلمان، وصدر في الجريدة الرسمية، وشرعت الحكومة نفسها في تطبيقه والإحالة عليه في قرارات ومراسيم لاحقة، لكنها جاءت بسابقة لا يوجد لها مثيل في تاريخ الممارسة الدستورية والقانونية للمغرب منذ الاستقلال، لتنهي وجود مقتضى قانوني بمرسوم.
تعالوا نمسك ببداية القصة: في مستهل أكتوبر الماضي، كانت الحكومة تسارع الزمن من أجل فرض النظام الأساسي الجديد لموظفي وزارة التربية الوطنية، واستباق عرض مشروع القانون المالي أمام البرلمان من أجل الحصول على اعتمادات مالية خاصة بمشروع إصلاح بيداغوجي، فجاءت قبل افتتاح السنة التشريعية بمرسوم بقانون يدخل تعديلا في القانون المحدث للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، بهدف إقناع الأساتذة “المتعاقدين” أن النظام الأساسي بات موحدا ولم يعد هناك تمييز بينهم وبين باقي الموظفين.
في حمأة الاحتجاجات العارمة التي فجرها النظام الأساسي إياه، كان هذا التعديل من أسباب غياب الثقة في الحكومة، لأنه يتحدث عن “الموارد البشرية الخاصة بالأكاديمية”، وبميز فيها بين “موظفين” و”أطر” و”موظفين في وضعية إلحاق”… أي أنه لا يبدد هواجس من كانوا يعتبرون أساتذة متعاقدين.
وبعد اضطرار الحكومة إلى التراجع عن نظامها الأساسي ومواقفها السابقة، كانت مطالبة بتعديل هذا المقتضى بالشكل الذي يبدد المخاوف نهائيا، وفي هذا السياق جاء مرسوم حكومي صدر في الجريدة الرسمية يوم 26 يناير الماضي، يقضي (هكذا) بسحب المرسوم بقانون الصادر في بداية أكتوبر 2023.
شخصيا صعقت عندما قرأت العبارة في الجريدة الرسمية يوم صدورها، وسارعت في أوقات متأخرة من تلك الليلة إلى ازعاج عدد من الأصدقاء المتخصصين، ومنهم أساتذة للقانونين البرلماني والدستوري لاستشارتهم. وما جعلني أرجئ التطرق للموضوع، هو اكتشافي أن المرسوم بقانون لم يعرض قط على جلسة تشريعية للمصادقة عليه، وواصلت متابعة الموضوع إلى أن طفا على السطح يوم الاثنين الماضي خلال الجلسة التشريعية التي عرضت فيها الحكومة مشروعي قانونين لتعديل كل من قانون الأكاديميات وقانون المعاشات المدنية، ويتحول الموضوع إلى نقاش عاصف بين المعارضة والحكومة.
الحقيقة أن النائب البرلماني الاتحادي، سعيد بعزيز، قدّم مقترح تعديل كان سيجعل الموضوع يغلق بشكل نهائي وسليم، لولا أن الحكومة وأغلبيتها أصرا على رفضه لنصبح أمام حالة شاذة دستوريا، لأننا اليوم أمام قاعدتين قانونيتين مختلفتين حول الموضوع نفسه، من جهة هناك مرسوم بقانون ما زال ساري المفعول (لا يمكن أن يلغيه مرسوم حكومي)، ومن جهة أخرى هناك قانون صدر أمس في الجريدة الرسمية.
تعتقد الحكومة أنها ألغت المرسوم بقانون الذي يتحدث عن “الموارد البشرية” للأكاديميات عندما أصدرت مرسومها يوم 26 يناير الماضي، والواقع أن هذا أجراء غير سليم، بل وغير ممكن، لأن المراسيم هي الوسيلة التي تمارس بها الحكومة صلاحياتها في المجال التنظيمي والإداري، ولا يمكنها بتاتا استعمالها لتغيير وضعية تشريعية أو سن قاعدة قانونية جديدة، ولا يمكن حتى من باب الخيال، اعتبار المرسوم الحكومي الذي يختص بما هو إداري، وسيلة لتغيير مسار نص تشريعي موجود بين يدي البرلمان.
عندما اشتدت المواجهة في جلسة الاثنين الماضي، ووجد الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان، مصطفى بايتاس، وحيدا في مواجهة نواب المعارضة، بادر رئيس المجلس، راشيد الطالبي العلمي، إلى إشهار رسالة قال إنه توصل بها من رئيس الحكومة، تقضي ب”سحب” المرسوم بقانون. وإذا كانت الرسالة صحيحة وتوصل بها المجلس فعلا قبل هذه الجلسة التشريعية، لماذا قامت الحكومة بإصدار مرسوم ينص على سحب المرسوم بقانون؟
الحقيقة أن نصوص القانون واجتهادات القضاء الدستوري والكتابات الفقهية لا تسعف الحكومة لا في سحب المرسوم بقانون ولا في إلغائه بواسطة مرسوم. الطريقة الوحيدة لإنهاء العمل بمرسوم بقانون هي نسخه كما اقترح سعيد بعزيز، وإذا اقتضى الأمر من الناحية التقنية استكمال مسطرة المصادقة عليه قبل نسخه فيمكن القيام بذلك في جلسة واحدة أو جلستين متتاليتين، أو بانتهاء الدورة التشريعية دون عرضه للمصادقة، فيسقط تلقائيا بما أن الدستور يلزم الحكومة بعرض المراسيم بقوانين على البرلمان لزوما في الدورة الموالية.
مسألة السحب التي أشهرها رئيس مجلس النواب ل”ترقيع” العبث الحكومي، فيها نقاش كبير ولا يمكن التسليم بها. وإذا كان الأمين العام للحكومة قد أشهر في وجه المعارضة فصول النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان، حين ساءلته كتابيا عن دستورية سحب الحكومة لعدد من مشاريع القوانين، من بينها المشروع المعروف ب”تجريم الإثراء غير المشروع”، فإن هذه المقتضيات لا تسعف ولا تبرر نهائيا سحب مرسوم بقانون.
الأمين العام للحكومة يشير في جواب سابق موجه للبرلمان إلى كل من المادة 177 من النظام الداخلي لمجلس النواب، والمادة 196 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين، والمادتان معا تتعلقان بسحب مشاريع القوانين، فقط ولا شيء آخر. المادة 177 من النظام الداخلي لمجلس النواب مثلا، تندرج ضمن الباب الثاني الذي يحمل عنوان “مشاريع ومقترحات القوانين” وهي تقول بالحرف: “للحكومة أن تسحب أي مشروع قانون في أي مرحلة من مراحل المسطرة قبل تمام الموافقة عليه من قبل مجلس النواب”، وتعود في المادة الموالية لتقول: “يمكن لصاحب أي مقترح قانون سحبه في أي وقت”.
أي أننا أمام مواد تؤطر بشكل خاص وحصري عملية سحب كل من “مشاريع القوانين” و”مقترحات القوانين”، وهو أمر منطقي وسليم لأن هذه النصوص وإن كانت تندرج ضمن مسطرة التشريع إلا أنها لم تكتسب بعد أية حجية، عكس المرسوم بقانون الذي ينشر في الجريدة الرسمية ويطبق كأي قانون نافذ، كآلية استعجالية في التشريع.
نعم، هناك قرار صادر عن المجلس الدستوري سنة 2014، كما نبّهني إلى ذلك أحد الأساتذة الجامعيين المتخصصين مشكورا، يقول إن مراسيم القوانين لا تكتسب صبغة قانون إلا بعد المصادقة عليها من قبل البرلمان بمجلسيه في الدورة العادية الموالية لصدورها، مما يجعلها غير مندرجة ضمن اختصاص المحكمة الدستورية، لكن لا يوجد في اجتهادات القضاء الدستوري، سواء في ظل الدستور الحالي أو الدساتير السابقة، ما يجيز للحكومة التدخل في مجال القانون كما حصره ووضحه الدستور، بواسطة مرسوم.
حتى قرار المجلس الدستوري الشهير في أدبيات القضاء الدستوري المغربي باسم “قرار البارابول”، والذي كان قد أسقط قانونا يفرض رسما على إقامة المحطات الأرضية الخاصة المعدة لالتقاط الإشارات الإذاعية التلفزية الصادرة عن أقمار صناعية، والذي نسبه رئيس مجلس النواب خطأ إلى عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي خلال النقاش الذي دار في جلسة الاثنين الماضي بينما هو يعود إلى العام 1994، (حتى هذا القرار) لا يسعف كحجة لتبرير ما أقدمت عليه الحكومة، لأنه يقول وبشكل صريح: “إحالة قانون يقضي بالمصادقة على مرسوم بقانون إلى المجلس الدستوري لفحص دستوريته يستوجب النظر في القانون والمرسوم بقانون معا لأنهما يكونان كلا لا يتجزأ”.
هل قرأتم الاقتباس الأخير؟ إنه يقول “كل لا يتجزأ”، فكيف تتجرأ الحكومة على المساس بجزء لا يتجزأ من قانون، لم يكتمل صدوره نعم، لكنه لا يدخل بأي شكل من الأشكال في مجال “المرسوم”.