story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

التطهير الدستوري

ص ص

هناك لحظات استثنائية لا تكمن أهميتها في فرادتها وندرتها، بل في كونها تكمون فارقة، لها ما قبلها وما بعدها، وهو ما ينطبق على خطوة الدرس الافتتاحي الذي خرج رئيس المحكمة الدستورية، محمد أمين بنعبد الله، لإلقائه في المدرّج الكبير لكلية الحقوق أكدال، بالعاصمة الرباط.
هي لحظة فارقة على الأرجح، ليس لأهمية المحاضر وصفته الرسمية التي لم يسبق لها الخروج بهذا الشكل المفتوح علي جمهور الأكاديميين والمختصين، بل لأن ورش القانون التنظيمي للدفع بعدم دستورية القوانين يشارف على النهاية أخيرا، بعد أكثر من 13 عاما من صدور الوثيقة الدستورية.
فقد أكد لنا وزير العدل خلال استضافتنا له أخيرا في برنامج “ضفاف الفنجان“، قرب صدور هذا القانون التنظيمي الذي رفضت المحكمة الدستورية إجازة نسخته الأخيرة بسبب عيب شكلي بسيط؛ كما عبّر رئيس المحكمة الدستورية نفسه عن قرب صدور هذا القانون، وتحدّث عن حدوث ذلك “قريبا”، وهو تنبؤ مشروع ومبرر لأن الدولة لا تشتغل بمنطق الجُزر المعزول بعضها عن بعض، بل لابد من تحضير وتنسيق واستعداد لإنجاح الأوراش الكبيرة من هذا الحجم.
هي أيضا خطوة غير معهودة، لأن رئيس المحكمة الدستورية خرج عبرها من جلباب الصمت الذي عادة ما يلف شخصيات بهذا الثقل المؤسساتي. فواجب التحفظ حسب المحاضر لا يعني واجب الصمت، بل يعني ضرورة احترام المهام التي يمارسها المسؤول، فلا يتطرق إلى المداولات والأشغال التي أفضت إلى قرارات المؤسسة، ولا يتطرق إلى الملفات التي يمكن أن تكون مووضع إحالة على المؤسسة، هذا كل شيء.
لم يكن خروج قاضي قضاة الدستور هذا مجرد ظهور عابر أو خطاب كلاسيكي مكرر أو مثقل بلغة الخشب، بل هو بمثابة إعلان غير مباشر بأن التحفظ الذي تفرضه الوظائف والمسؤوليات العمومية لا يعني الانعزال، وبأن المؤسسات الدستورية ليست أبراجا عاجية تعيش بعيدا عن أسئلة المجتمع وتفاعلاته.
بنعبد الله، وهو الفقيه الدستوري الذي لا يمكن أن يعبر أي طالب أو باحث مغربي هذا الحقل المعرفي دون أن يكون قد صادفه، إما شخصيا في مدرّج جامعي أو من خلال أحد مقالاته العلمية الرصينة؛ لم يكتفِ بمجرد التذكير بتطورات القضاء الدستوري في المغرب أو عرض ملامح تاريخية لنشأته، بل ذهب أبعد من ذلك بكثير.
لقد كشف المحاضر في واحدة من أكثر لحظات اللقاء أهمية، أي حين استفاض في التأسيس العلمي والنظري لمفهوم واجب التحفظ، عن غياب شبه تام لتفعيل آلية عرض القوانين على القاضي الدستوري للتحقق من مطابقتها للدستور، والعمل على “تطهيرها”.
نعم، في مغرب اليوم، حيث يتفاخر الجميع بدستور 2011 كإطار متقدم لحقوق الأفراد والمؤسسات، تمرّ القوانين إلى التنفيذ دون أن تُعرض على ميزان الدستور، بفعل كسل وخمول ألفهما الفاعل السياسي الذي يفضّل اللجوء إلى منطق المساومة و”التوافق”، ولو كان ذلك على حساب الاحترام الواجب لنص وروح الدستور، في وضع شبّهه المحاضر نفسه ب”التآمر” على المواطن، عندما تنهي الأغلبية والمعارضة خلافاتهما دون الاحتكام إلى القاضي الدستوري.
هذه ليست مجرد ثغرة قانونية، بل انعكاس لثقافة سياسية تحتاج إلى إصلاح جذري، خاصة حين كشف رئيس المحكمة الدستورية عن معطى إحصائي صادم، يقول إن خمسة قوانين “عادية” فقط عُرضت على المحكمة الدستورية منذ إحداثها وتنصيبها رسميا في أبريل 2017، إلى جانب 14 قانونا آخر عُرض على المجلس الدستوري منذ إحداثه عام 1994.
والقسط الأكبر من المسؤولية عن هذا الوضع الخطير يتحمّله كل الذين تعاقبوا على رئاسة غرفتي البرلمان، لأنهم لم يفعّلوا قط الحق المخوّل لهم بإحالة القوانين المشكوك في دستوريتها أو المثيرة للجدل على القضاء الدستوري.
لقد مات الأستاذ الجامعي والمحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي شهر ماي الماضي، مهموما بإشكالية عدم دستورية جزء كبير من القوانين والتشريعات المغربية. وخلّف الراحل كتابا خاصا بهذا الموضوع، يتناول فيه عيّنة من النصوص القانونية المعمول بها في المغرب، والمشكوك بقوة في مدي احترامها للدستور.
كان الراحل ينشغل كثيرا بغياب آلية الدفع بعدم دستورية القوانين، ويشير إلى الكثير من القوانين السابقة عن دستور 2011، بل التي صدرت في عهد الحماية وما زالت سارية المفعول.
بينما كشفت محاضرة رئيس المحكمة الدستورية أن الوضع قد يكون أدهى وأمرّ، لأن القوانين الجديدة لا تجد طريقها نحو الفحص الدستوري على يد الجهة المختصة إلا نادرا، وهو ما يعني أننا قد نكون بصدد مواصلة التشريع للمغاربة خارج ما توافقوا عليه من قواعد دستورية هي بمثابة عقد اجتماعي.
أعود وأقول إن الأهم من مضمون ما قاله رئيس المحكمة الدستورية هو سياق حديثه. فلأول مرة في تاريخ القضاء الدستوري المغربي، نرى مسؤولا من هذا المستوى يجلس أمام جمهور من الطلبة والأساتذة والباحثين، بعيدا عن أسوار المحكمة وطقوسها الرسمية، ليقدم مقاربة تنضح بالجرأة والشفافية.
قد يقول قائل إن في الأمر مخاطرة، لكن الحقيقة أن ما فعله بنعبد الله هو بالضبط ما تحتاجه مؤسسة مثل المحكمة الدستورية في مغرب اليوم: الانفتاح والتواصل وتبسيط المفاهيم التي غالبًا ما تُترك حبيسة المكاتب المغلقة.
حديث بنعبد الله عن الرقابة الدستورية كان أكثر من مجرد درس أكاديمي. لقد كان دعوة غير مباشرة للنخبة السياسية والقانونية لتحمل مسؤولياتها في تعزيز ثقافة الدستور كوثيقة حية، لا كواجهة رمزية أو جثة محنّط، حين أشار إلى الرقابة على دستورية القوانين كضمانة للأجيال القادمة، ورؤية شاملة تجعل من القضاء الدستوري فاعلا أساسيا في حماية الاستقرار والتوازن، ليس فقط بين السلطات، بل بين الدولة والمجتمع أيضا.
إنها بالفعل لحظة فارقة تعيد صياغة العلاقة بين المؤسسات الدستورية والجمهور. إنها دعوة لوقف التعامل مع المحكمة الدستورية، والمؤسسات التي تشبهها، ككيان غامض بعيد، وبدء النظر إليها كفاعل حيوي في صيانة العقد الاجتماعي.
إن ظهور رئيس المحكمة الدستورية بهذا الشكل وفي هذا السياق هو رسالة مزدوجة: رسالة طمأنة بأن القضاء الدستوري لا زال حريصا على أداء دوره المركزي، ورسالة تحذير بأن ضمان سيادة القانون يتطلب أكثر من مجرد نصوص على الورق، بل إرادة حقيقية تجعل من الرقابة الدستورية أداة يومية لتقويم الانحرافات وضمان احترام القواعد التي تعاقد عليها المغاربة.
إنها خطوة شجاعة، وقد تكون حجر الأساس لتغيير حقيقي في طريقة فهمنا وعلاقتنا بالمؤسسات الدستورية.