التجويع يفتّت المغرب!

المغاربة منشغلون كلّيا بتوفير سبل البقاء و”مضاربين مع الزمان” ولا يعوّلون إلا على أسرهم، وطلّقوا كل اهتمام بالسياسة أو بالمشاركة فيها وفقدوا كل ثقة في مؤسساتها التمثيلية.
هذه خلاصة نتائج الدراسة الثالثة من نوعها التي أنجزها المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (تابع للديوان الملكي) حول الرابط الاجتماعي، فيما تعود النسخة الأولى إلى سنة الربيع العربي (2011) والنسخة الثانية إلى العام 2016.
ويحدّثنا المعهد عن تميّز واضح للرابط الأسري مقارنة بباقي الروابط التي تجمع المغاربة، وعن تأثير كبير للتقاليد، وتمسّك برموز الهوية الوطنية (الرموز فقط) وضعف اهتمام المواطنين بالسياسة والانتخابات. ويتحدّث عن “الطابع المادي” للمطالب الاجتماعية، وعن “التواكلية” في علاقة المغاربة بالدولة. وعندما سئل المشاركون في الدراسة عن أهم عامل للعيش المشترك السلمي، كان في صدارة الأجوبة عامل تحسين القدرة الشرائية، يليه توفير العمل للجميع، فيما احتل عاملا الحرية والعلمانية المرتبتين الأخيرتين.
الخلاصة أننا في المغرب، حيث تتصاعد المخاوف الاقتصادية بمعدلات غير مسبوقة، وحيث تتحول السياسة إلى مسرح بلا جمهور، نواجه تساؤلا ملحّا: هل يتم دفع المغاربة إلى الانشغال المطلق بتدبير يومهم، حتى لا يكون لديهم وقت أو طاقة للمطالبة بالحقوق والحرية؟
هل أصبح الاقتصاد سلاحا غير معلن للسيطرة، حيث يُنهك المواطن في صراع يومي مع أسعار الخضر والأسماك واللحوم، فلا يبقى له من الوعي أو الجهد ما يكفي للمطالبة بالعدالة السياسية والاجتماعية؟
هل بات المثل الشعبي “ضربو لحلقو ينسى للي خلقو”، سياسة عامة للدولة، تتفرّع عنها سياسات عمومية تتعمّد تفقير وتجويع وتعطيش المغاربة حتى لا يعودوا من جديد إلى المطالبة بالحقوق والحريات؟
حين يتراجع التعويل على الدولة ويتقهقر الإيمان بالمؤسسات، التمثيلية بالخصوص، وحين تفقد السياسة وظيفتها كأداة لتنظيم المجال العام، لا يبقى أمام الفرد سوى العودة إلى أولى روابطه الاجتماعية: العائلة، ثم الدائرة القريبة من الجيران والأصدقاء. وهذا ما تكشفه نتائج الدراسة.
البحث الوطني الأخير حول الرابط الاجتماعي، الذي كشف المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية عن نتائجه، يقول إن المغاربة باتوا يعيدون ترتيب أولوياتهم الاجتماعية وفق منطق البقاء، حيث ترتفع مؤشرات الثقة في الأسرة إلى مستويات قياسية، مقابل انهيار الثقة في المؤسسات التمثيلية، وضعف الرهان على العمل السياسي والمدني كمساحات للتغيير.
كأننا نشهد عودة إلى الحالة البدائية للإنسان.. تتراجع فكرة الدولة كمظلة جامعة، ويعود الأفراد إلى الاحتماء بروابطهم الأولية التي سبقت نشوء المؤسسات الحديثة.. القبيلة تزحف على الدولة وتقزّمها.
فالأسرة لم تعد مجرد فضاء للعاطفة والدعم المعنوي، بل أصبحت بديلا فعليا عن الدور الذي يفترض أن تلعبه الدولة في ضمان الأمان الاقتصادي والاجتماعي.
حين يجد الإنسان نفسه في مواجهة تحديات لا يستطيع حلها عبر أدوات الدولة الحديثة، فإنه يعود إلى الأدوات التي أثبتت نجاعتها في فترات تاريخية سابقة: التضامن العائلي، تبادل الدعم بين أفراد القبيلة، البحث عن شبكات غير رسمية للاقتصاد والمعيشة، واللجوء إلى علاقات تعتمد على الولاء الشخصي بدل التعاقد الاجتماعي الرسمي.
إننا لا نتحدث هنا عن عودة سطحية للروابط التقليدية، بل عن انقلاب في المنطق الذي ينظم العلاقات الاجتماعية، حيث يصبح “من تعرفه” أكثر أهمية مما يضمنه لك القانون، وحيث تتحول شبكات القرابة والصداقة إلى أدوات بقاء أساسية في ظل انسحاب الدولة من أداء أدوارها الاجتماعية.
السياسة، التي كان يُفترض أن تكون الفضاء الذي يعوض هذه الحاجة البدائية للحماية، لم تعد تلعب هذا الدور. المواطن المغربي لا يرى في البرلمان أو الأحزاب أو حتى في العمل النقابي مجالا يمكن أن يوفر له أمنا أو حلولا لمشاكله.
وحين تنكفئ السياسة، فإن المجتمع لا يظل معلقا في الفراغ، بل يبحث عن بدائل، حتى وإن كانت تلك البدائل تعني العودة إلى أشكال التنظيم الأقدم في التاريخ البشري.
اليوم، ليست الأسرة مجرد مصدر دعم معنوي، بل هي أيضا شبكة الأمان الوحيدة في ظل غياب أي مؤسسات قادرة على تقديم ضمانات حقيقية للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
وإذا فقد أحدنا وظيفته، أو وجد نفسه في أزمة مالية، فإن الدولة لن تكون حاضرة لحمايته، بل أسرته هي التي ستتكفل به.
هذا ما يجعل الروابط التقليدية تستعيد قوتها، ليس بسبب اختيار واع أو تحوّل قيمي، بل بدافع الضرورة.
المفارقة أن هذه العودة إلى الروابط الأولية لا تعني بالضرورة تقوية التماسك الاجتماعي، بل ربما العكس تماما.
فعندما تصبح الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الوحيدة التي يُعتمد عليها، فإن المجتمع ينقسم إلى جزر معزولة، تتقوقع كل واحدة على نفسها، وتنسج هذه الجزر تحالفات مصلحية جديدة، وتتراجع فكرة الانتماء إلى كيان وطني جامع.
قد ترى الدولة في هذا التحول مخرجا مؤقتا، لأن المجتمعات المفككة أقل قدرة على الاحتجاج والمطالبة بالتغيير، لكنها بذلك تخاطر بإنتاج مجتمع لا يشعر بالانتماء إليها إلا من حيث الوثائق الرسمية، بينما في العمق يعود إلى أنماط تنظيم تقليدية، حيث الولاء يكون للأسرة، أو للقبيلة، أو حتى للشبكات الاقتصادية غير الرسمية التي تحل تدريجيا محل الدولة.
الهوية الوطنية، التي لطالما كانت من ثوابت الخطاب الرسمي، تمر بدورها بتحولات عميقة في هذا السياق. ويشير البحث إلى أن المغاربة لا يزالون يعتبرون الانتماء إلى المغرب قيمة مركزية وغير بعيدة عن محددات الانتماء، لكن السؤال الحقيقي هو: أي نوع من الانتماء هذا؟ هل هو انتماء للدولة كمؤسسات حديثة، أم أنه انتماء وجداني قائم على الرموز أكثر من كونه علاقة حقيقية مع منظومة مواطنة متكاملة؟
يفتح هذا الوضع المجال لعدة سيناريوهات مستقبلية، جميعها يحمل مخاطر لا يمكن تجاهلها. فحين يضعف الحس المدني، تتراجع المشاركة في الفعل السياسي، وعندما تفقد المؤسسات التمثيلية شرعيتها في نظر المواطنين، فإنهم يتجهون إما إلى اللامبالاة المطلقة، أو إلى البحث عن أشكال بديلة من التنظيم، بعضها قد يكون قائما على الولاءات الشخصية أو حتى على منطق القوة.
ما يكشفه البحث الوطني ليس مجرد أزمة اقتصادية أو سياسية، بل هو تحوّل جذري في طريقة المغاربة في فهم أنفسهم وعلاقتهم بالمجتمع والدولة.
والسياسة التي يفترض أن تكون الفضاء الذي يجمع الأفراد حول أهداف مشتركة، أصبحت اليوم شيئا هامشيا، بينما تعود الأسرة والروابط التقليدية إلى الواجهة كملاذات فردية في وجه واقع متغير.
إذا لم يتم تدارك هذا المسار، فإن المغرب لن يصبح فقط مجتمعا بلا سياسة، بل قد يتحول إلى فسيفساء من الجماعات المتباعدة، التي لم تعد ترى في بعضها جزءا من نفس المشروع الوطني، بل مجرد كيانات متجاورة، لا يجمعها سوى الضرورة، وقد تطفو خلافاتها وتناقضاتها، بدل بروز ما يجمعها ويوحدها.
ما نراه اليوم ليس مجرد تراجع في الثقة بالمؤسسات، بل هو تآكل عميق في الفكرة الحديثة للمواطنة، تلك الفكرة التي قامت على أساس أن الدولة هي الضامن الأول لحقوق الأفراد، بغض النظر عن انتماءاتهم العائلية أو الجهوية أو الطبقية.
المجتمع يتجه نحو شكل جديد من التنظيم، أكثر بدائية، وأكثر هشاشة، حيث يصبح الانتماء للعائلة أو الجهة عاملا محددا في فرص الوصول إلى الخدمات أو النجاة من الأزمات.
قد تستفيد الدولة على المدى القصير من هذه الديناميكية، لكنها على المدى البعيد تخلق واقعا غير متجانس، ينقسم فيه المجتمع إلى مجموعات مغلقة، تفقد تدريجيا الشعور بالانتماء إلى كيان وطني موحد، وتتعامل مع الدولة بوصفها كيانا بعيدا، لا يشكل جزءا حقيقيا من حياتها اليومية.