البرلمان المغبون
احتفل البرلمان المغربي يوم أمس بذكرى مرور ستين سنة على إحداثه، ولولا الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في ندوة احتضنتها المؤسسة بالمناسبة، لما كان أغلب المغاربة قد انتبهوا إلى المناسبة أو التفتوا إليها.
كانت للراحل مصطفى العلوي، قيدوم الصحافيين المغاربة، كلمة معبرة يصف بها ما يريد القول إنه لا ينال حقه، وهي كلمة “مغبون”. وهو الوصف الذي يليق ببرلماننا في ظل الموقع الهامشي الذي تشغله هذه المؤسسة المركزية في المجتمعات التي قطعت طريق الحداثة السياسية.
الغريب في المشهد أن الرسالة الملكية وما تضمنته من قراءة لتاريخ وحاضر المؤسسة التشريعية، هي أكثر تقدما وتشبعا بالروح الديمقراطية عن كل ما يروج في الساحة من خطاب وفعل سياسيين، صادرين عمن يفترض فيهم آن يكونوا أصحاب المصلحة الأولى في وجود مؤسسة برلمانية حقيقية، تمثل الشعب وتجسد سيادته.
يحق للمتابعين والباحثين المختصين في الشأن البرلماني، أن يضعوا الممارسة البرلمانية الحالية في مرآة هذه الرسالة الملكية، لأن ما ساد وانتشر وترسخ في التمثل الجماعي، هو أن صدر المؤسسة الملكية المغربية يضيق تجاه هذه المؤسسة، وعقلها الباطن لا يحتمل فكرة التمثيل خارج أشكاله التقليدية التي يتولاها الملك.
كثيرا ما نسمع في ردهات مجلسي البرلمان وعلى هامش اجتماعات لجانه، عبارات “الفوق” المفترض، الذي يتدخل لتوجيه النقاشات والتحالفات والتصويت، بل إن لغة الإشارة تحل محل لغة الكلام عبر تلك الأصابع التي تشير نحو الأعلى في إشارة إلى مصدر تغيير مفاجئ في الموقف أو تراجع عن مقترح أو اعتراض، ما كرّس هذه الصورة التي تصوّر الملك كما لو كان نقيضا للفكرة البرلمانية كما أنتجها الفكر الإنساني الحديث.
ماذا قالت الرسالة الملكية؟
لقد حرصت أولا على تحديد تمثلها التاريخي للمؤسسة، وأكدت ما يشير إليه الاحتفال بالذكرى انطلاقا من عام 1963. اختيار هذه السنة كنقطة بداية في التأريخ للبرلمان المغربي تعني الانتصار للفكرة الحديثة للبرلمان كمؤسسة منتخبة ومنبثقة من الشعب، لأن الأدبيات البرلمانية تسمح وبكل سهولة باعتبار المجلس الوطني الاستشاري الذي تأسس عام 1956، تجربة “برلمانية” بالنظر إلى تركيبته التي حاولت أن تعكس تمثيلية المجتمع المغربي.
اختيار بدء التأريخ من 1963 يعني تجاوز فترة المجلس الاستشاري الذي كان معيّنا، والاعتراف بارتباط فكرة البرلمان بفكرة الدستور أولا، أي ما بعد وضع دستور 1962، ثم استحضار المكانة المركزية لفكرة الانتخاب وبالتالي إرادة الشعب.
الرسالة الملكية التي تليت أمس في مقر البرلمان، استحضرت حرص الملك محمد الخامس و”القوى الوطنية” على تمكين المغرب من مجلس وطني استشاري، “كلبنة لبناء ديمقراطية تمثيلية”، لكنها عادت لتؤكد أن البرلمان المغربي “الحقيقي” لم ير النور إلا “في عهد والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني أكرم الله مثواه، ما أراده بطل التحرير للأمة، من إقامة دولة المؤسسات”.
بل إن الموقع الرسمي لمجلس النواب يشير إلى مشروع دستور 1908 الذي وضعته مجموعة من المثقفين الوطنيين المعروفين بلقب “جماعة لسان المغرب”، كأول ظهور لفكرة البرلمان في المغرب، وهو المشروع الذي كان قد وضع في سياق متصل بمحاولات السلطان مولاي عبد الحفيظ لإنقاذ الدولة من الانهيار، ومنع المغرب من السقوط تحت الاستعمار الأجنبي.
أي أن البرلمان يتموقع تاريخيا في نفس معسكر المؤسسة الملكية، بل يسندها ويقويها كما يشير إلى ذلك سلوك الملكية بعد الاستقلال، أي المسارعة إلى إحداث المؤسسة بالرغم من كل التوتر والصراعات التي عرفتها تلك المرحلة بين الملكية و”القوى الوطنية”.
رسالة الملك محمد السادس التي ألقيت أمس، وإن حرصت على دعم فكرة البرلمان وتأكيد أهميته، تماما مثلما كان الحال قبل عشر سنوات حين جاءت رسالة ملكية بمناسبة الذكرى 50 لتؤكد حق البرلمان في المبادرة التشريعية في مجال القوانين التنظيمية، سجلت أيضا عددا من المؤاخذات و”الانتقادات” التي تهم التجربة البرلمانية، مستعملة عبارة “التحديات” المهذبة، مع الإشارة إلى أن الأمر يتعلق بأمثلة وليست لائحة حصرية.
تتمثل هذه “التحديات” في ضرورة تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين على غيرها من الحسابات الحزبية، “وتخليق الحياة البرلمانية من خلال إقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية بمجلسيها تكون ذات طابع قانوني ملزم، وتحقيق الانسجام بين ممارسة الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية، فضلا عن العمل على الرفع من جودة النخب البرلمانية والمنتخبة، وتعزيز ولوج النساء والشباب بشكل أكبر إلى المؤسسات التمثيلية”.
الخطاب الرسمي المهذب للرسالة الملكية يعيد ما نردده جميعا، من هيمنة للحسابات الحزبية والفئوية الضيقة على سلوك أعضاء المؤسسة التشريعية، وكثرة الشبهات المحيطة بقسم كبير منهم بفعل مساراتهم أو ما اتخذ في حقهم من إجراءات مسطرية وقرارات وأحكام، وتجاهل محبط للمبادرات القليلة التي صدرت عن آليات الديمقراطية التشاركية، فضلا عن التراجع الملاحظ في جودة النخب البرلمانية الحالية وغياب الشباب والنساء عن صفوفها خارج ما تتيحه آليات التمييز الإيجابي.
إن الملك لا يكره البرلمان ولا يحاربه ولا يرغب في إضعافه أو تحويله إلى مؤسسة شكلية وهامشية. وعلى من يعملون ليل نهار على تحطيم المؤسسة البرلمانية وتجميدها ومنعها من لعب دورها الكامل، أن يبحثوا عن مبررات أخرى، لأن إضعاف البرلمان هو إضعاف للمغرب وبالتالي إضعاف للملكية نفسها.
“ينبغي التأكيد على الدور الحاسم الذي يجب أن يضطلع به البرلمان في نشر قيم الديمقراطية وترسيخ دولة القانون، وتكريس ثقافة المشاركة والحوار، وتعزيز الثقة في المؤسسات المنتخبة”، تقول رسالة الملك. هل من مستجيب؟