الاعتراف.. الجريمة الجديدة في حق فلسطين!

ترددتُ كثيرا قبل كتابة هذا المقال، لأنني لم أرد أن أفسد على الفرحين ولا على المهللين فرحتهم وتهليلهم بمسألة اعتراف مجموعة من الدول الغربية بالدولة الفلسطينية، ذلك أن قراءتي للتاريخ ومتابعتي للأحداث كونت لدي قناعة راسخة بأن الغرب فَقَد إنسانيته تماما ومنذ زمن بعيد يقاس بالقرون وليس اليوم فقط، وأن هذه الاعترافات ليست لا صحوة ضمير ولا عمل خيري.
العقلية الرأسمالية الغربية المتوحشة المدعومة بنظرية التفوق العرقي، لا تعرف هذا الكلام، وهذه الاعترافات لا تدخل في سياق رد الحق إلى أصحابه وتمكين الفلسطينيين من الاستقلال بقدر ما تشكل مناورة سياسية كبرى لا يعتبر مصير الفلسطينيين فيها سوى مسألة هامشية ، وذلك للأسباب التالية:
- إن هذه الاعترافات لا تفسد في الحقيقة وفي العمق علاقة هذه الدول بإسرائيل عكس المسرحية التي يلعبها الطرفان أمامنا ولن تجازف الدول الغربية بهدم بنية ونظام دولي تعتبر هي المستفيدة الوحيدة منه، لأن قرار الدولتين الذي يؤسس لدولة فلسطينية على حدود 1967 هو قرار أممي قديم كانت الدول الغربية شاهدة عليه ومشاركة فيه، ولكنها بسبب عقلية الخبث والمناورة التي تملكها قامت بكل ما من شأنه عرقلة تطبيق القرارات الأممية على أرض الواقع، وهذا يشبه كثيرا ما وقع في اتفاق مينسك 1 و2 بين الحكومة الأوكرانية وممثلي سكان منطقة الدونباس، والذي اعترفت أنجيلا ميركل التي كانت راعية للاتفاق إلى جانب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، (اعترفت) أنها وزميلها الفرنسي لم تكن لديهما في الحقيقة أية نية لتنزيل الاتفاق على الأرض وأن الغرض من الاتفاقين كان هو إعطاء أوكرانيا هامشا كافيا من الوقت لتسليح نفسها في أفق الدخول في حرب مع روسيا، هذه هي عقلية الغرب الحقيقية والعميقة .
- ثانيا لو كان مصير الفلسطينيين هو المحفز لهذه الاعترافات، ولو أرادت الدول الغربية تحسين وضع الفلسطينيين لبدأت أولا بفرض عقوبات على إسرائيل، ولعلّقت العمل بالاتفاقيات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية مع إسرائيل، ولأوقفت تصدير السلاح والمعدات واستيراد المنتوجات الإسرائيلية للضغط على نتنياه؛
- كيف نبتلع اعتراف هذه الدول بدولة فلسطينية بينما لا يزال حتى مجرد حمل العلم الفلسطيني أو التظاهر من أجل وقف الإبادة الجماعية في تلك الدول يؤدي بالمتظاهرين إلى السجن والاتهام بمعاداة السامية؟
- الحقيقة أن هذه الاعترافات تندرج ضمن الحرب السياسية والاقتصادية والتجارية الطاحنة بين إدارة ترامب والحكومات الأوروبية، تلك الحرب التي لا تشكل فيها فلسطين سوى ورقة ضغط أوروبية ضد ترامب، حيث يعتبر الأوروبيون أن اعترافهم بدولة فلسطينية سيمنحهم قوة تفاوضية، وسيؤدي إلى إحراج المشروع الأمريكي-الإسرائيلي القاضي باقتسام والاستئثار بغزة كوعاء عقاري وتحويلها إلى رأسمال .
- دأبت الدول الغربية على إيهام مجموعة من الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بالاستقلال بينما تحتفظ هي في الحقيقة بزمام الأمور وبالقرار الحقيقي سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا وأمنيا. وهناك نوعان من الاستقلال، واحد كذلك الذي حصلت عليه الصين بتضحيات حقيقية وميدانية مكنت البلاد من بناء دولة حقيقية وإقلاع متين في كل المجالات، وهناك النوع الآخر من الاستقلال وهو ذلك الذي نعاني منه جميعا والذي ترك كل الأوراق في يد مستعمر الأمس، حيث لا نكاد نجد دولة من إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية استطاعت تحقيق استقلال حقيقي، بل كلها إما ما تزال في قاع سلم الحضارة والتنمية وإما أنها مرتهنة حتى نخاع العظم للمستعمر القديم ومؤسساته
ولذلك، حين نستمع لخطب وكلمات رؤساء الدول التي اعترفت بفلسطين نفهم بسهولة أنهم يتكلمون عن نوع محدد من الاستقلال، استقلال لا يأتي بنخبة مقاومة إلى سدة الحكم، وإنما نخبة عميلة كتلك التي تحكم فلسطين الضفة، حتى إن ماكرون تحدث عن دولة منزوعة السلاح… لذلك وعلى المدى الطويل، بل حتى المتوسط، قد توافق إسرائيل على دولة فلسطينية تحكمها نخبة تأخذ شرعيتها من تل أبيب مثل النموذج الدرزي في لبنان؛
- هذه الاعترافات من المفروض أنها ستشرعن رد فعل إسرائيلي بضم الضفة الغربية وغزة من جديد على أساس أن تل أبيب غاضبة من الخطوات الأوروبية، والحقيقة أن الأمر غير ذلك تماما، وإنما يسهل على إسرائيل التراجع عن الاتفاقات السابقة، على علاتها، وفتح مفاوضات جديدة تؤدي إلى إخراج دولة فلسطينية على المقاس ووفق المعايير التي تجعلها مجرد مقاطعة إسرائيلية في سياق توسع تل أبيب في المنطقة..
نظرا لكل ما سبق يمكن القول إن هذه الاعترافات وبالطريقة التي تمت بها ووفق الشروط التي وضعتها هي عملية فائقة الدقة والذكاء لتصفية القضية الفلسطينية بشكل تام ونهائي.