الاستسلام للسّلمية

في اليوم السادس لاحتجاجات “جيلZ”، بدا المشهد وكأنه يستعيد عافيته: شباب يرفعون ورودا وينبدون من يلقون الحجارة، وقوات عمومية تؤطّر بدل أن تداهم، ومؤسسات تتحرك أخيرا باتجاه يجعل الدستور حيا لا ديكورا.
هذا ما حصل أمس الخميس 02 أكتوبر تحديدا؛ ولهذا السبب ينبغي أن نلتقط الخيط قبل أن ينفلت من جديد.
لقد أثبتت التجربة القريبة أن الفارق بين دولة تصغي ودولة ترهب ليس سوى قرار سياسي أو إداريّ واحد وطريقة تدبير، وأن المسافة بين احتجاج سلميّ ومشهد فوضى لا تقاس بعدد الخوذات والدروع، بل بذكاء السلطة وصدق نية المجتمع في حماية سلمية مطلبه.
البداية كانت من الشارع: السلطات حضرت لتؤطّر الوقفات، لا لتفضّها. لو جرى هذا منذ اليوم الأول لما دخلنا نفق الإهانات الجماعية والاعتقالات العشوائية والتقديمات المتسرّعة.
مشهد الورد التي قدِّمت لعناصر الأمن ليس تفصيلا عاطفيا؛ بل هو رسالة صريحة بأن السلمية ليست تكتيكا عند هؤلاء الشباب، بل خيارا هويّاتيا يميّز موجتهم عن كل من يختبئ في الظلام ليركب غضبهم ويشوه مطلبهم.
وفي الجهة المقابلة، رأينا نضجا تنظيميا لافتا: نقاط تجمّع واضحة، وسقف زمني محدد للوقفات، وحرص واع على عدم جرّ الوقفات إلى أحياء هشّة يسهل إشعالها، وخطاب مباشر للقوات العمومية: لسنا خصومكم ولا هدفنا كسر الدولة؛ هدفنا أن نصلحها.
تزامن ذلك مع استيقاظ بطيء لكن مهمّ في الجسم المؤسّساتي. المجلس الوطني لحقوق الإنسان قال بوضوح ما ظللنا نقوله منذ اليوم الأول: الحق في التظاهر السلمي يجب أن يحمى بالتأويل الحقوقي لا بالشكليات. والتصريح إخطار تنظيمي وليس ترخيصا سياسيا، والميزان يجب أن يظلّ مائلا دائما لصالح حماية السلمية، مع ملاحقة التخريب بعين جزائية باردة.
مؤسسة وسيط المملكة فتحت بدورها مسارا عمليا بعنوان “منتديات الحكامة المرفقية” حول القطاع الصحي، أي جوهر المطالب الحالية.
وعلى نحو نادر في ثقافة المكابرة، خرج وزير الشغل يونس السكوري ليميّز علنا بين شباب يتظاهرون نهارا بشجاعة مدنية، ومجموعات تظهر ليلا بوجوه ملثّمة لا تمتّ بصلة إلى روح هذه الحركة. هذا الكلام البسيط الذي يسمّي الأشياء بأسمائها يساوي كثيرا في ترميم الثقة.
ثم جاءت الخطوة المفصلية: وثيقة مطالب من “جيل Z” موجّهة مباشرة إلى الملك. يمكن أن نختلف مع بعض مضامينها، لكن لا يمكن إنكار أنها، وللمرة الأولى، تحوّل العنوان من ضباب منصّات إلى نصّ قابل للنقاش داخل الإطار الدستوري.
لا شعارات تعجيزية، ولا قفز على قواعد النسق السياسي؛ بل ترجمة للوجع إلى بنود، من ربط المسؤولية بالمحاسبة، إلى حماية حرية التعبير، فإطلاق مسارات إنصاف قضائي لمن لم يحمل سوى هاتف ولافتة.
هذا انتقال نوعي لأن الموجة تعرّف نفسها وتضع أرضية تدعو الجميع إلى طاولة مكشوفة.
من هنا، لا يعود السؤال: هل نفاوض أم لا؟ بل: كيف نستثمر هذه الانطلاقة فلا نعود إلى المربع الأمني؟
أولا، لابد من اعتراف سياسيّ صريح بأصل الداء. سنوات من تجريف الحياة السياسية، وتفريغ هيئات الوساطة، وإفساد سوق الأفكار بتحويل الإعلام إلى جماعات من الشبيحة، والتمثيل الحزبي إلى تمارين ولاء.
حين ظنّت الدولة أنها تتقوّى بإضعاف الوسائط، جرّدت نفسها من واقيات الصدمات، وصارت في مواجهة مباشرة مع الشارع بكل ما في ذلك من مخاطر على الجميع. الإصلاح يبدأ من تسمية هذا المسار باسمه: كان خطأ فادحا، ودفعنا جميعا ثمنه.
ثانيا، ينبغي ترجمة مشهد الأمس إلى قواعد مكتوبة: بروتوكول وطني للتعامل مع التجمعات الرقمية والسلمية، يعلن بوضوح أن الإخطارييسّر ويحمي ولا يقيّد، وأن التفريق لا يكون إلا عند خطر محدق وبوسائل متناسبة وتحت رقابة لاحقة. يقابله التزام مدنيّ معلن من المنظمين بحماية الممتلكات ونبذ العنف والتعاون مع السلطات في عزل المخرّبين. هذه “هدنة كرامة”: سلمية مصونة مقابل إنصات ملزم.
ثالثا، إجراءات عاجلة تبرّد الدماء الساخنة حاليا. منها إطلاق سراح كل من لم يتورط في عنف مُجرّم، وفتح تحقيقات قضائية نزيهة وشفافة في كلّ إصابة أو وفاة، ومنها أحداث القليعة ووجدة وإنزكان وسلا… بالموازاة مع تتبّع قضائي صارم لكل اعتداء موثّق على الأشخاص والممتلكات. لا إصلاح بلا عدالة، ولا عدالة بالانتقائية.
رابعا، مسار مؤسسي للحوار لا يذوب في البلاغات. جلسات استماع علنية ومنتظمة يقودها من تبقى في الساحة من حائزي الثقة، بمواكبة المؤسسات الوطنية (الوسيط، المجلس الوطني لحقوق الإنسان)، وتنقل مباشرة للرأي العام، وتتحوّل فيها وثيقة الشباب إلى جدول أعمال تجيب عن أسئلة: “ما الممكن دستوريا الآن؟”، و”ما الذي يحتاج اقتراح قوانين جديدة؟”، و”ما الذي يقتضي قرارات إجرائية للحكومة؟”، و”ما نصيب الجهات والمجالات الترابية المحلية من الحلّ؟”. هكذا تعاد السياسة إلى مكانها الطبيعي: صناعة حلول لا صناعة الجمود.
خامسا، عقد اجتماعي مصغّر حول الأولويات من صحة وتعليم وشغل. لا يكفي أن نقول إن المونديال فرصة؛ يجب أن نثبت حسابيا أن درهما يصرف هنا لا يقتطع من سرير هناك. نحتاج لجنة يقظة للإنفاق الاجتماعي تربط بين ما يعلن وما يُنجز بمؤشرات قابلة للتحقق، وتمنع تحوّل رمزية الأحداث الكبرى إلى ملح على جرح الفوارق.
سادسا، بوابات مشاركة دائمة لا ظرفية: مجالس شبابية جهوية ذات صفة استشارية ملزمة بالرأي، ومختبرات سياسات عامة مفتوحة بشراكات جامعية، لاستقبال الطاقة التي رأيناها على “ديسكورد” وإدماجها في مسارات تنتج اقتراحات وتتابع أثرها.
كل هذا لا يعفي أحدا من واجبه الأخلاقي اليوم. على الشباب الذين رفعوا ورودا أن يحموا سلميتهم أكثر. لا غطاء بعد اليوم لملثّم يحمل سكينا، ولا عذر لمن يسوّغ الحرائق باسم الغضب. وعلى الدولة أن تثبت أنها فهمت الرسالة، فلا تعود إلى المقاربة الصلبة فور أن يهدأ الشارع، ولا تختبئوا خلف لجان تنقّح البلاغات. المطلوب قرارات تُرى وتُحَسّ: مناصب في الصحة والتعليم تفتح، وتجهيزات تصل، وإجراءات حكامة تفعّل، وآجال تحترم.
علّمنا أمسنا القريب أن البلد حين يزرع الريح، بتأميم الحق في التعبير وتجفيف السياسة، يحصد العاصفة. واليوم يلوح شقّ في الغيم: شارع يستعيد سِلمه، وسُلطة تجرّب الإصغاء، ومؤسسات تتقدّم خطوة، ووثيقة مطالب تغادر الضباب.
هذا هو الممرّ الضيّق الذي لا يجوز أن نضيّعه. علينا أن نطفئ الحرائق بقرار عادل، ونؤمّن الفضاء العام لقيمة اسمها “الاحتجاج السلمي”، ونعيد السياسة إلى أصحابها، ونمضي، بكثير من الترفّع، لنجعل من هذه الهبّة فرصة لاستئناف مسار إصلاح تعطّل أكثر مما ينبغي.
الكرة الآن في ملعبنا جميعا: شبابا يحمون سلميتهم، ودولة تعترف بأخطائها وتتدارك، ونخبا تتخلّى عن الحسابات الصغيرة، وإعلاما يعيد الجدل إلى سكّته المهنية.
إذا فعلنا ذلك، سنكون قد حوّلنا ورود يوم أمس إلى طريق مفتوح: من غضب محزن إلى إصلاح مطمئن، نقطف معه هذه الوردة الجميلة التي قدّمها لنا “جيلZ” لإعادة روح السياسة إلى جسد الدولة… يكفي أن نستسلم للروح السلمية التي سكنت هذا الحراك الشبابي منذ البداية.