الاحتقان السياسي بين الأغلبية والمعارضة
تضارب المصالح واتهامات الفساد في ميزان الشفافية والمسؤوليةعاشت الحياة السياسية مؤخرا بوليميك سياسي لازالت تأويلاته وحكايته مستمرة في الفضاء العام بخصوص التضارب في المواقف والآراء بين الأغلبية والمعارضة وأساسا بين حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة. بدأ هذا النقاش يشكل واضح على العموم بمناسبة الجلسة الشهرية لرئيس الحكومة في مجلس النواب حول السياسة العامة في موضوع “البنيات التحتية الأساسية رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية”، وذلك يوم الاثنين 16 دجنبر 2024.
وفي تعقيبه على المعارضة اتهم رئيس الحكومة المعارضة بممارسة الكذب وتغليظ الراي العام في العديد من القضايا، وهو ما أثار حفيظة المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية، مما أدى الى توترات وتجاذبات للآراء والآراء المضادة، حيث اتهمت هذه المجموعة صراحة بكون رئيس الحكومة استغل منصبه من أجل تمكين شركة بعينها قد تكون تابعة للهولدينغ العائلي الخاص لرئيس الحكومة بالفوز بالصفقة، وهو ما يضرب في الصميم بقواعد المنافسة الحرة، ويجعله في وضعية تضارب المصالح ضدا على الدستور والقوانين حسب تصريح الحزب.
أعقبه بعد ذلك تنظيم ندوة صحفية للحزب في يوم الخميس 19 دجنبر 2024، حيث وجهت صراحة تهمة الفساد وتضارب المصالح بكل تفاصيلها الى السيد رئيس الحكومة من طرف قيادة حزب العدالة والتنمية.
في اعتقادي أن تصريحات حزب العدالة والتنمية ضد رئيس الحكومة عزيز أخنوش حول تضارب المصالح واستغلال النفوذ تعتبر جزءًا من التوتر السياسي الطبيعي بين الأحزاب في السياق الديمقراطي المغربي. هذه الاتهامات تنبع من موقف الحزب باعتباره جزء من المعارضة، والذي قد يسعى طبيعيا من خلالها إلى تسليط الضوء على القضايا التي يمكن أن تضعف موقف الحكومة أمام الرأي العام من جهة، وإعادة توهجه السياسي بعد الهزيمة القاسية التي مني بها في آخر انتخابات من جهة اخرى.
يمكن تقييم هذه التصريحات من عدة جوانب، فمن الناحية القانونية فان اتهام رئيس الحكومة بتضارب المصالح يثير أسئلة حول مدى التزامه بقوانين محاربة الفساد، خصوصًا تلك المتعلقة بربط المسؤولية بالمحاسبة. وإذا كانت هناك أدلة ملموسة، يمكن أن تشكل هذه التصريحات أساسًا للتحقيق. حيث أن تضارب المصالح ومحاربة الفساد من الناحية القانونية يشكلان جزءًا جوهريًا من بناء دولة القانون والمؤسسات، إذ يسعى التشريع والتنظيم إلى منع استغلال النفوذ الشخصي أو الوظيفي لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
وعامة يحدث ذلك عندما تتداخل المصالح الشخصية أو العائلية أو المالية لمسؤول عمومي مع واجباته المهنية، بما قد يؤثر على اتخاذ قرارات موضوعية ونزيهة. وفي السياق القانوني دائما تؤدي هذه الوضعية إلى الفساد إذا لم يتم معالجتها بشكل ملائم.
وبالرجوع إلى الدستور المغربي (2011) نجده ينص في الفصل 36 بوضوح على منع تضارب المصالح، واستغلال النفوذ، والفساد بمختلف أشكاله. ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة باعتباره قاعدة محورية لمكافحة الفساد. اما القوانين المتعلقة بمحاربة الفساد وتضارب المصالح في المغرب فتشمل:
1- القانون رقم 113.12: المتعلق بإنشاء الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها.
2- القانون رقم 54.05: المتعلق بـاستغلال النفوذ ومنع تضارب المصالح في الوظيفة العمومية.
3- القانون رقم 43.05: المتعلق بمكافحة غسل الأموال، كجزء من مكافحة الفساد.
4- القوانين الخاصة بالتصريح بالممتلكات للمسؤولين العموميين.
ومن بين الأمثلة على تطبيق القانون؛ حالات حقيقية لتضارب المصالح يمكن أن تشمل مسؤول حكومي يمتلك أسهماً في شركة تستفيد من عقود الدولة، أو رئيس مؤسسة عامة يستخدم نفوذه للحصول على امتيازات شخصية، أو استغلال المعلومات السرية لتحقيق مكاسب تجارية.
وعليه فمن الناحية القانونية، يعتبر تضارب المصالح تحديًا خطيرًا يهدد نزاهة المؤسسات، الشيء الذي يتطلب احترام الإطار الدستوري والقانوني المشار اليهما واعتماد آليات فعالة لضمان الشفافية والمساءلة، بما يعزز ثقة المواطنين في الإدارة العمومية ومؤسسات الدولة.
من الناحية السياسية فان تحليل ادعاءات حزب العدالة والتنمية ضد رئيس الحكومة يمكن التطرق اليها من جانب السياق السياسي أولا باعتبار حزب العدالة والتنمية وكما سبقت الإشارة إلى ذلك خسر موقعه في السلطة وتدبير الشأن العام بعد الانتخابات التشريعية لعام 2021، والتي شهدت تراجعًا كبيرًا في شعبيته، ما دفعه إلى الانتقال إلى صفوف المعارضة. وبالتالي فهو يسعى لاستعادة وهجه وموقعه السياسي ومصداقيته وهو طموح سياسي مشروع، وذلك عبر تسليط الضوء على ملفات حساسة ذات بعد شعبي وسياسي قد تضع الحكومة في موقف دفاعي أمام الرأي العام.
أما السيد رئيس الحكومة رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار والفاعل الاقتصادي البارز، فيُنظر إليه كرجل أعمال قوي يمتلك شركات كبرى، بما في ذلك شركة “أفريقيا” لتوزيع المحروقات. وما اثير حول هذا المجال من لغط سياسي وإعلامي وذلك بالتركيز على تضارب المصالح واستغلال النفوذ الذي يأتي من الارتباط بين العمل السياسي والاقتصادي.
ان ادعاء حزب العدالة والتنمية بأن رئيس الحكومة، كرجل أعمال، قد استفاد من منصبه لتحقيق مكاسب شخصية، خاصة في القطاعات الاقتصادية الحساسة مثل المحروقات سابقا، وحاليا من صفقة تحلية مياه البحر بجهة الدار البيضاء باسم شركة تابعة للهولدينغ الشخصي والعائلي له، يثير مسألة استغلال النفوذ باتهام الحكومة الحالية بأنه قد سهل قرارات لصالح شركات يمتلكها أو له نفوذ فيها، مما يضر بمبدأ المساواة في الفرص. في نفس الوقت يتهم رئيس الحكومة بأنه لا يعطي الأولوية لمعاناة المواطنين، خاصة في ظل ارتفاع الأسعار، وهو ما يثير استياء وسخط شعبي.
من هنا يمكن أن نثير ثلاث خلفيات سياسية لهذه الادعاءات؛ أولها إضعاف الشرعية الحكومية وذلك بتقويض ثقة الشارع في الحكومة الحالية، وتصويرها على أنها تخدم المصالح الاقتصادية للنخب على حساب الشعب، ثم نهج استراتيجية المعارضة ببناء سردية تعتمد على الأخلاقيات السياسية، بتقديم حزب العدالة والتنمية نفسه كمدافع عن الشفافية والنزاهة، بعد الانتقادات التي طالته خلال فترة قيادته الحكومة. واخيرًا نحو تقوية الضغط شعبي باستغلال حالة الاحتقان الاجتماعي، خاصة مع ارتفاع أسعار المواد الأساسية والمحروقات، لتأجيج الرأي العام ضد السيد أخنوش وحكومته.
اما بخصوص قراءة المواقف المتبادلة بين الحزبين فنجد مثلا ان حزب العدالة والتنمية يركز على مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، متهمًا الحكومة بعدم الشفافية. ويطالب بتحقيقات أو مسارات قانونية للنظر في تضارب المصالح. أما الحكومة ورئيسها فيؤكدان على الردود التي تركز على الإنجازات التنموية ومحاولة تقليل تأثير الاتهامات باعتبارها جزءًا من خطاب المعارضة المعتاد. وطبعا ينفي أخنوش شخصيًا أي تضارب مصالح، مشددًا على الفصل بين عمله السياسي والتجاري.
لكن على مستوى التداعيات السياسية فيمكن لهذه الاتهامات أن تُضعف صورة الحكومة لدى الرأي العام إذا لم تكن هناك شفافية أو ردود واضحة، وفي حال تصاعد الضغط الشعبي، فقد تواجه الحكومة تحديات أكبر في تنفيذ سياساتها. أما على مستوى حزب العدالة والتنمية فان نجاحه في استقطاب الانتباه لقضية تضارب المصالح قد يعزز موقعه كمعارضة قوية، ومع ذلك، عليه الحذر من أن يتحول خطابه إلى مجرد انتقادات دون تقديم بدائل حقيقية. أما على مستوى الرأي العام فان هذه الاتهامات تعكس انقسامات سياسية واضحة، لكنها قد تؤجج حالة السخط الشعبي تجاه الطبقة السياسية ككل، وليس فقط الحكومة ورئيسها.
ان هذه المخارج السياسية الممكنة للاحتقان بين المعارضة والحكومة يمكن ان تكون فرصة لتبني مقاربات سياسية قائمة على الحوار، الشفافية، وتعزيز الثقة بين الأطراف السياسية والمجتمع، وذلك بإصدار تقارير او بلاغات دورية من قبل الحكومة لتوضيح موقفها بشأن ملفات تضارب المصالح والقرارات الاقتصادية المثيرة للجدل، وتوضيح استفادة مختلف القطاعات الاقتصادية من القرارات الحكومية، مع نشر تفاصيل دقيقة لطمأنة الرأي العام.
كما سيكون من المفيد تفعيل دور المؤسسات الرقابية بالسماح للهيئات الرقابية المستقلة، مثل المجلس الأعلى للحسابات، بالتحقيق في الادعاءات المتعلقة باستغلال النفوذ وتضارب المصالح مع الإعلان عن نتائج التحقيقات لتعزيز ثقة المواطنين في المؤسسات.
وبالموازاة مع ذلك فتح حوار سياسي جاد بين الحكومة والمعارضة من خلال المؤسسات الدستورية مثل البرلمان أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لمناقشة القضايا المثيرة للجدل، مع إشراك الفاعلين السياسيين والمجتمع المدني في نقاشات موسعة حول أولويات المرحلة، خاصة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية الحساسة.
ومن جانب اخر تهدئة الخطاب السياسي بالتوقف عن التراشق الإعلامي بين الحكومة والمعارضة، والانتقال إلى خطاب سياسي بناء يركز على تقديم حلول للأزمات بدلًا من تبادل الاتهامات. مع تعزيز الثقة الشعبية باتخاذ إجراءات عملية لمحاربة الفساد؛ حيث ان الحكومة بحاجة إلى إظهار جدية أكبر في محاربة الفساد عبر الإعلان عن إجراءات صارمة تجاه المتورطين، بغض النظر عن مواقعهم وتحسين آليات التواصل الحكومي مع المواطنين، من خلال شرح السياسات المتخذة وأهدافها بشكل واضح ومباشر.
وعليه فان المخارج السياسية لهذا الاحتقان تتطلب مزيجًا من الحوار والشفافية في العمل الحكومي، وتفعيل دور المؤسسات الرقابية. وعلى الحكومة أن تكون أكثر استباقية في معالجة القضايا المثيرة للجدل، بينما يجب على المعارضة أن تقدم نفسها كبديل جاد ومسؤول، مع التركيز على التحديات الحقيقية التي تواجه المغاربة.
*كمال الهشومي
أستاذ العلوم السياسية
جامعة محمد الخامس