استنطاق دبلوماسيتنا البكماء

تُقدِّم مشاركة المغرب في الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، لوحة قراءة لخيارات مؤسسة بكماء داخليا اسمُها الدبلوماسية المغربية. ووصف البكم هنا ليس مجانيا، لأنها بالفعل مؤسسة تدبّر مصالحنا، وباسمنا، لكنّها تخاطب العالم بين الحين والآخر، دون أن تفكّر يوما في مخاطبتنا أو إشراكنا أو التواصل معنا.
عنوان هذه اللوحة الأبرز انكفاء إرادي ومحسوب على القضايا والمصالح الوطنية المباشرة، وانسحاب متزايد من القضايا الدولية والإقليمية، يتجسّد في غياب عن معظم الملفات الإقليمية والدولية الساخنة، بما فيها التفاعلات الجارية لتحضير مستقبل غزة بعد العدوان الإسرائيلي.
هناك حضور واضح للفعل الدبلوماسي حين يتعلّق الأمر بسردية السيادة والمشاريع الكبرى ذات العائد الداخلي، في مقابل غياب ملحوظ حين يتطلّب المشهد مبادرة تتجاوز العنوان الوطني إلى فضاءات التأثير الأوسع. ما يعني أننا عمليا في غرفة الانتظار، ولن نحسم خياراتنا قبل أن تهدأ زوبعة إعادة تشكّل العالم التي نعيشها حاليا.
بهذا المعنى، بدا أسبوع نيويورك المرتبط بأشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، اختبارا لمدى استعداد الرباط لتحويل القوة الرمزية التي راكمتها إلى أدوار خارج حدودها. اختبار أظهر ميلا إلى تسويق يمكن وصفه بالذكي للملفات والقضايا الوطنية، أكثر مما أظهر رغبة في الانخراط في هندسة العالم أو حتى الإقليم، باستثناء حضور رمزي في الواجهة الإفريقية عبر منطقة الساحل.
بعيون مغربية، يصبح أسبوع نيويورك أكثر من مجرّد “مشاركة بروتوكولية”، لأن خطابات وتصريحات ولقاءات المسوولين المغاربة، تعكس محاولة واعية لتدويل الأجندة الوطنية وجرّها إلى قلب موسم أممي مكتظّ بالملفات الساخنة.
دخل المغرب قاعة الجمعية العامة بخطاب واضح عن فلسطين. مطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، ووصول غير مشروط للمساعدات، وعودة إلى حلّ الدولتين، مع تذكير بدور لجنة القدس ووكالة بيت مال القدس. ثم خرج إلى الردهات حاملا حقائبه الثقيلة: الصحراء، ومونديال 2030، وممرّ الأطلسي لدول الساحل.
على مستوى الصحراء، لا تبدو نيويورك هذا الخريف ساحة حسم بقدر ما هي غرفة صدى لما يجري تثبيته في عواصم القرار. اللقاء المنتظم مع ستيفان دي ميستورا أعاد تدوير المعادلة نفسها: مسار سياسي “واقعي وعملي”، يقوم على الحكم الذاتي، مع استمرار نمط المشاورات والإنصات من دون مؤشرات على اختراق قريب.
مصادري الدبلوماسية تقول بوضوح إن تحرّكات دي ميستورا هذا العام لن تُنتج تحولا نوعيا، عكس ما يتردّد ويروّج، والسبب بسيط: مفتاح الملف في واشنطن لا في نيويورك؛ فالولايات المتحدة هي “حاملة القلم”، (وحاملة أشياء كثيرة في الحقيقة)، في ملف الصحراء داخل مجلس الأمن، وهي التي ثبّتت منذ 2020 اعترافها بسيادة المغرب ولم تتراجع عنه، ثم جرى تأكيده علنًا هذا الصيف، وتكراره على لسان وزير خارجيتها مطلع الربيع، وردّده المسؤولون الأمريكيون هذا الأسبوع أمام وزير الخارجية ناصر بوريطة من خلال مسألة الاستثمار في الصحراء، ما يجعل أي تغيير في صوغ القرارات الأممية رهينا بقرار أمريكي أوّلا.
أمّا على خطّ الأمم المتحدة، فالمؤشرات العملية لا تزال أقرب إلى “تجديد تفويض” المينورسو و”جلسات إحاطة” بعيدة عن أي مسار تفاوضي نوعي. حتى الطرح التقني الذي لوّح به دي ميستورا العام الماضي (تقسيم الإقليم) قوبل برفض قاطع من المغرب، وعاد المسار إلى مربّع المشاورات.
لذلك، إذا كان في نيويورك تثبيتٌ للسردية، فإن صياغة الفقرة الحاسمة ستُكتب في واشنطن.
ضمن أسبوع نيويورك أيضا، جرى استثمار لحظة أممية لأجل مونديال 2030. اجتماعٌ رفيع في “ترامب تاور”، بحضور امبراطور الكرة العالمية، رئيس الفيفا إنفانتينو، وشركاء المغرب الملف الثلاثي: إسبانيا والبرتنغال.
هنا يتبدّى أحد مؤشرات التحوّل: الرياضة كأداة نفوذ ناعم تُقدّم بوصفها دبلوماسية ثقافية واستثمارا طويل الأمد، لا حدثا عابرا. والحديث عن “مؤسسة المغرب 2030” كذراع للتنسيق والمتابعة، ينقل الملف من خانة الوعود إلى خانة الهندسة المؤسسية، ويمنح الرباط لغة أرقام ومواعيد في فضاء دولي يحاكم الدول على قدرتها على التنفيذ.
بالتوازي، حرّكت دبلوماسيتنا طبقات أخرى تبني الصورة الهادئة لبلد “مصدّر للاستقرار”. لقاءات مكوكية مع الأوروبيين (من رئاسة المفوضية إلى وزراء خارجية)، وتثبيت الشراكات الأطلسية وتفقّد للعلاقات مع بريطانيا، ورسائل اطمئنان مع شركاء في أمريكا اللاتينية وإفريقيا والخليج، وإطلاق تمديد الخطة الوطنية لـ”النساء والسلام والأمن” (2025–2026) بما يضع المغرب في خانة “القوة المعيارية” التي تتكلم لغة إصلاحات أممية لا لغة الشعارات فقط.
وعلى خطّ العلاقات جنوب–جنوب، جرى اجتماع وزاري لتسريع مبادرة تمكين دول الساحل من الولوج إلى الأطلسي، أي تحويل المغرب من “حدّ جغرافي” لعالم الجنوب، إلى “ممرّ استراتيجي” لاقتصادات محاصرة في الداخل نحو عالم الشمال.
يبقى سؤال غزة. صحيح أنّ الأسبوع شهد لقاءات أمريكية ضاغطة حول مسارات ما بعد الحرب؛ لكن لا توجد مؤشرات علنية على دخول مغربي في هذه القاعات المغلقة.
القراءة الأرجح أن الرباط اختارت مسارا متعدد الأطراف يحفظ استقلالية حركتها ويقيها التموضع في هندسة أحادية لملف شديد الحساسية. خطاب المنصّة الذي ألقاه رئيس الحكومة عزيز أخنوش، حمل مبادئ واضحة، والحضور الفعلي توزّع بين مؤتمرات ترعاها أطراف أوروبية وعربية، مع إبقاء مسافة محسوبة عن طاولات لا تزال خرائطها تتبدّل كل يوم.
هل كان ذلك انكفاء على القضايا الوطنية؟ ليس بالضرورة. ربما كان تسويقا مدروسا لها على منصة كونية، مع هندسة “حضورٍ انتقائي” في الملفات الإقليمية.
الربح وفق هذا النهج واضح في ثلاث جبهات:
- أولا، تحويل الصحراء إلى سردية حلّ، مدعومة بأدوات تمويل واستثمار بدل كونها عنوانا للنزاع؛
- ثانيا، تقديم المونديال كرافعة سمعة وبنية تحتية، لا كاحتفال رياضي معزول؛
- وثالثا، تعميق صورة المغرب كفاعل يزاوج بين “البراغماتية الواقعية” و”القوة المعيارية” عبر مسارات التنمية والسلام والأمن والساحل والصحراء، وشبكات الشراكة الأوروبية والأطلسية…
لكن ثمّة كلفة لا بد من إدارتها: كلما ارتفعت جرعة “التدويل الذكي” للأجندة الوطنية، وجب أن تتقوّى في المقابل قابلية الدولة للمبادرة في ملفات عابرة للحدود، وفي مقدّمتها غزة. فدون هذا التموقع الدولي يتحوّل الذكاء الاتصالي إلى تسويقٍ خارجي لملفاتٍ داخلية فحسب.
معيار النجاح في ما بعد نيويورك سيكون بسيطا وقاسيًا في آن: تحويل خطاب المنصّة واللقاءات الجانبية إلى جداول زمنية دقيقة، وعقود مموّلة، وأوراش قابلة للقياس، في العيون والداخلة وطنجة كما في الرباط والدار البيضاء.
عندها فقط سيغدو “الأسبوع الأممي” أكثر من صورة جميلة، وسيصبح فصلا جديدا في سردية بلد يفضّل أن يصنع أجندته… ثم يعرضها على العالم.