استرجاع وادي الذهب.. لماذا يعتبر 14 غشت يوم عطلة في المغرب؟
رغم أنه ليس عيدا وطنيا، إلا أن يوم 14 غشت من كل سنة هو يوم عطلة رسمية مؤدى عنها. يأتي ذلك احتفاء باليوم الذي استقبل فيه الملك الراحل الحسن الثاني، شيوخ وأعيان قبائل إقليم وادي الذهب، لتلقي بيعتهم. وجاءت الخطوة بعد استرجاع هذا الإقليم الذي كانت اتفاقية مدريد 1976 قد منحته لموريتانيا.
ويعتبر القوس الفاصل بين فترة المسيرة الخضراء وتوقيع اتفاقية مدريد (أبريل 1976)، ولحظة استرجاع إقليم وادي الذهب عام 1979، حاسما في فهم أبعاد وخلفيات النزاع الذي كلّف المغرب نصف قرن من الحرب والارتهان للمسارات الدولية والاستنزاف الاقتصادي.
فخلافا لباقي المناطق التي استرجعها المغرب تباعا بعد استقلاله الأولي عن فرنسا وإسبانيا منتصف الخمسينيات، لم تتسلّم المملكة إقليم وادي الذهب من يد مستعمر أوربي، بل سحبته من قلب اتفاق كان يقضي بنقل السيادة عليها من موريتانيا إلى جبهة البوليساريو.
الحسن الثاني: طبعا سنقتسم الصحراء
في جذور هذه الفكرة القائمة على اقتسام الصحراء بين المغرب وموريتانيا، نعود إلى الأيام الأولى التي أعقبت تنظيم المسيرة الخضراء.
وفي ندوة صحافية عقدها بالقصر الملكي بالرباط يوم 25 نونبر 1975، روى الملك الحسن الثاني مضمون الحوار الذي دار بينه وبين الأمين العام للأمم المتحدة مستهل العام 1975:
“عندما التقيت السيد فالدهايم (الأمين العام للأمم المتحدة حينها) في أوائل السنة قال لي بعد مأدبة عشاء: لقد بدأت تروج بعض الإشاعات في كواليس الأمم المتحدة عن اقتسام الصحراء بينكم وبين موريتانيا، وقلت: هل تشكّون في ذلك يا حضرة الأمين العام؟ فقال لي: كيف؟ فقلت: عندما قبلت الأمم المتحدة طرح السؤال على محكمة العدل الدولية التي هي مستشاركم القانوني على الشكل التالي: ما هي العلاقات التي كانت تربط المغرب بالصحراء؟ وما هي العلاقات التي كانت تربط موريتانيا بالصحراء؟ قصدتم من ذلك نصا وضمنيا أنه يمكن أن يكون هناك جواب واحد بأنه توجد روابط مع كلا الجانبين، وبالنتيجة نصل في الختام إلى اقتسام”.
حرص الملك الراحل على التوضيح أن الأمر ليس اقتساما من طرف المحتل، أو بين المغاربة والموريتانيين التوسعيين “اللذين يريدون اقتسام جثة ذلك الطفل البئيس الذي ولد، إنه فقط عودة إلى الينابيع، والاقتسام كان مدرجا في الطلب الذي قدمناه إلى محكمة العدل الدولية…”.
ويضيف الملك الراحب بخصوص خط الحدود الذي سيفصل بين المغرب موريتانيا: “أريد أن أقول لكم إن ذلك لم يتم تحديده بصفة كاملة، ولم يحدد بعد، لكن يمكن لي القول على كل حال بأنه لن تكون هناك ولو نقطة واحدة من الخلاف بين موريتانيا والمغرب، ولقد سوينا جميع مشاكلنا، وسواء أحب ذلك من أحب أو كره من كره من الآخرين، فلن تكون هناك أية فجوة من شأنها أن تستعمل كنقطة ارتكاز لأداة انفجار بين المغرب وموريتانيا…”.
وأضاف الملك أمام الصحافيين، أنه شخصيا لم يكن مع فكرة ضم موريتانيا إلى المغرب، “وقد قلت ذلك في أول استجواب لي لما شرفني والدي بأن أكون نائبا لرئيس مجلس الحكومة التي كان يرأسها، ولقد طالبت في استجوابي بإجراء استفتاء في موريتانيا، وأن يطلب من الموريتانيين هل يرغبون في أن يصبحوا مغاربة أو يريدون البقاء مستقلين، وفيما إذا رفضوا أن يصبحوا مغاربة فالمغرب يكون أول المعترفين وتأييدهم لدخول الامم المتحدة وأن يفتح أكبر سفارة له في موريتانيا لأنني لا أردى ذلك نوعا من الخيال، فليس من المعقول أن أطالب بتمبوكتو لان المغرب كان يملكها في عهد السعديين، ولا أن أطالب بإشبيلية لأن صومعة لاخيرلدا توجد هناك وهي جزء من بناء لموحدين”.
خيار التقسيم تكتيك قانوني
عاد الملك الراحل في خطاب العرش الموالي، أي يوم 3 مارس 1976، ليفسّر عبر الإذاعة والتلفزيون هذه المرة، الأساس الذي بنيت عليه فكرة اقتسام الصحراء مع موريتانيا: “لقد فاوضنا الدولة الإسبانية زمنا ما وسعتنا المفاوضة، وحاورناها ما تيسرت لنا سبيل المحاورة، فلما تعذر الوصول إلى الغاية المنشودة اجتمعت كلمتنا وكلمة شقيقتنا موريطانيا على الاحتكام إلى أسمى محكمة دولية، وجاء الحكم بعد الإحالة من لدن منظمة الأمم المتحدة مؤيدا لوجهة نظرنا ووجهة نظر شريكتنا في المطالبة، شقيقتنا الدولة الموريطانية”.
ونقرأ في وثيقة استخباراتية أمريكية مؤرخة في منتصف أبريل 1976، إخبارا للمسؤولين الأمريكيين بتوصل كل من المغرب وموريتانيا إلى اتفاق يقضي بتقاسمهم السيادة على الصحراء، حيث يتولى المغرب مسؤولية الثلثين الشماليين، بينما تحوز موريتانيا الثلث الجنوبي. الوثيقة تسجل بشكل فوري معارضة الجزائر للاتفاق واعتبارها إياه غير قانوني.
كما نجد في الأرشيف الرسمي للمغرب، نص اتفاقية مؤرخة في 16 أبريل 1976 تتعلق بتخطيط الحدود البرية بين المغرب وموريتانيا.
الظهير الملكي الذي يصادق على الاتفاق صدر في الجريدة الرسمية عدد 3311 مكرر. فيما يتحدث نص الاتفاقية على أن الحدود البرية بين البلدين يرسمها الخط المستقيم “الذي يبتدء من نقطة التقاء الشاطئ الأطلسي مع خط العرض الشمالي 24، والذي يتجه إلى نقطة التقاء بين خط العرض الشمالي 23 وخط الطول الغربي 13، وإن التقاء هذا الخط المستقيم مع الحدود الحالية للجمهورية الإسلامية الموريتانية يشكل خط الحدود الجنوبية الشرقية للمملكة المغربية”.
إلى جانب هذه الاتفاقية، أبرم اتفاق تعاون اقتصادي ملحق بها، ينص على اشتراك البلدين في رأسمال شركة فوس بوكراع التي تستغل الفوسفاط في الصحراء، “على أن تحدد ترتيبات هذا الاشتراك باتفاق بين البلدين”.
ويضيف الاتفاق الاقتصادي أن البلدين اتفقا على تنسيق وسائلهما وطاقاتهما من أجل استكشاف الثروات الباطنية في الأقاليم الصحراوية المسترجعة قصد العمل على استغلالها بكيفية مشتركة، كما نص على بذل البلدين جهودهما من أجل تنمية تعاونهما في ميدان الصيد البحري وتمكين كل منهما من التسهيلات اللازمة في مياه الأراضي الصحراوية المسترجعة…
الصحراء مغربية-موريتانية
تسجّل وثيقة استخباراتية أمريكية مؤرخة في يوم 4 مارس 1976، من ضمن الوثائق التي رفعت عنها السرية مؤخرا، خلوّ خطاب العرش الذي ألقاه الملك الحسن الثاني من أية إشارة تضيء أكثر موضوع كيفية اقتسام الصحراء بين المغرب وموريتانيا، ما يعكس الاهتمام الأمريكي والدولي الكبير بهذه النقطة.
وفي 21 نونبر 1976، أدلى الحسن الثاني بحديث إلى ممثلي نادي الصحافة بباريس على هامش زيارة رسمية لفرنسا، قال فيه إن العربية السعودية لا تقوم بدور الوساطة، لكن الأمير فهد يقوم، بتعليمات من الملك خالد، بمساع لتقصي الحقائق، “ونحن نحبذ هذا المسعى، على أساس أن الطابع المغربي الموريتاني للصحراء لا رجعة فيه، ونحن نحبذ جميع المبادرات التي تسعى للمحافظة على مستقبل المنطقة، وعلى المسؤولين المتواجدين فيها حتى لا يكون هناك غالب ولا مغلوب قد يعوق بناء التعاون بين بلدان المغرب في المستقبل.
وشدّد الملك في ذات اللقاء على أن تقرير المصير قد تم بالنسبة إليه، “انطلاقا من الوقت الذي جاءت فيه الجماعة لتقدم مراسم البيعة، وهذه الجماعة نفسها هي التي كانت أساسا قد وضعت بين يديها سيادة وتمثيل الصحراء لأنها هي التي كانت ستحول إليها السيادة والسلطات”.
وفي اليوم الأخير من زيارته الرسمية إلى فرنسا، أي يوم 25 نونبر 1976، عقد الحسن الثاني ندوة صحافية بقصر تريانون بفرساي، أكد فيها أن مشاكل الأمن تواجه موريتانيا لأن حدودها مع الجزائر واسعة أكثر من حدودها مع المغرب، كما أن الوسائل التي تتوفر عليها موريتانيا قليلة وأقل فعالية وأقل عملية تقريبا مما يتوفر عليه المغرب.
“…من الأكيد أن المغرب وموريتانيا عندما طالبا بالصحراء كانا من جهة على استعداد للدفاع عنها إلى النفس الأخير، ومن جهة كانت لهما حدود مشتركة، وهذا عنصر جاء ليمحو الافتراءات التي تدعي أننا لا نتوفر على حدود مشتركة، وهنا سنكون مضطرين إلى إقامة حدود مشتركة سواء كانت مقسمة أو من جهة التضامن، إلا أنه وفي جميع الأحوال قررنا إقامة الحدود بطريقة أو بأخرى”.
الجزائر تتنكّر
كانت التسوية المغربية الموريتانية تبدو أرضية متينة لحل نهائي لنزاع الصحراء، يحفظ التوازن الإقليمي ويفتح أمام الصحراويين خيارات أكبر بين المغرب وموريتانيا. لكن الجزائر اعتبرت ذلك مساسا بمصالها الحيوية، باعتبارها تصبح خارج نظام إقليمي قوي ومرتبط بالعمق الافريقي.
توالت المناورات والهجمات في الشهور اللاحقة، وتوالت معها رسائل الاحتجاج الملكية الموجهة للرئيس الجزائري والقادة العرب الذين حاولوا لعب دور الوساطة، خاصة بعد الانقلاب العسكري الذي هزّ موريتانيا في يوليوز 1979، والذي غيّر اتجاه البوصلة الموريتانية من المغرب نحو الجزائر.
“خلال المؤتمر الأخير (القمة العربية) الذي عقد بالرباط سنة 1974، وأمام جميع رؤساء الدول الحاضرين أخذ الكلمة رئيس الجمهورية الجزائرية في آخر المطاف وبعد أن شرح الملابسات التي استطاعت تقسيم المغرب وموريتانيا وذلك منذ 1958-1959، وبعد أن شرح كذلك كيف توصل هؤلاء وأولئك إلى اتفاق، قال رئيس الجمهورية بأن الصحراء لا تهمه بتاتا وأن الأمر لا يعنيه”، يقول الملك الراحل في ندوة صحافية يوم 11 نونبر 1977، مشدّدا على أن بومدين كان قد التزم بمساعدة المغرب وموريتانيا.
في الشهر نفسه، خصّ الحسن الثاني صحيفة “فرانس سوار” باستجواب قال فيه إن من الخطأ الاعتقاد بان 70 ألف صحراوي سيتطيعون تكوين بلد مستقل، “وبالضبط في الجزء الصحراوي الذي يعود إلينا حيث يوجد 30 ألفا من السكان في المدن، وهم سكان يتوجه أبناؤهم إلى المدارس، ولم يقولوا لنا أبدا نحن لا نريد أن نكون مغاربة…”.
وحين سأله الصحافي كيف أمكنه معرفة وجود 70 ألف صحراوي، قال الملك إن الاستفتاء الذي أجراه الإسبان قبل انسحابهم من الصحراء قال إن عدد السكان هو بالضبط 73 ألفا، “ويمكن اعتبار 50 ألفا تقريبا اندمجوا سواء في المغرب أو في موريتانيا”.
وفي ندوة صحافية أخرى عقدها بمدينة مراكش في يناير 1978 بمناسة زيارة وفد اقتصادي إسباني للمغرب، دافع الحسن الثاني بقوة عن اتفاقية مدريد، وقال ردا على سؤال استفزه حول ما إذا كانت هذه الاتفاقية تنطوي على نقط ضعف وقال: “أستغرب من السؤال حين يكون بهذه الكيفية، ما هي قيمة اتفاقية مدريد؟ وهل أنا لا يمكنني أن أتساءل عن قيمة اتفاقية الجزيرة الخضراء؟ أعتقد شخصيا أن الاتفاقيات ليست لها قيمة في حد ذاتها، ولكن قيمة الموقعين عليها هي التي تضفي عليها حلة الحرمة وتعطيها طابعا من الجدية والاستمرار في تطبيقها”.
وحين سأله صحافي حول كيفية تطبيق مبدأ تقرير المصير الذي نصت عليه الاتفاقية، رد الحسن الثاني: “أعتقد أن اتفاقية مدريد لا تحتوي على مثل هذا البند، بل قالت بأن الشعب الصحراوي قد اختار بواسطة جماعته، تلك الجماعة التي كانت إسبانيا ستسلم لها مقاليد الأمور، فضّلت الالتحاق بحضيرة وطنها دون أن تستقل بشؤونها كما كانت حكومة إسبانيا تريد ذلك”.
6 آلاف جندي مغربي في موريتانيا
في يوليوز من العام 1978، نفذ مجموعة من الضباط انقلابا على الرئيس الموريتاني المختار ولد دادة، في الوقت الذي كان هذا الأخير يشكل حلفيا استراتيجيا للمغرب، ويستفيد في المقابل من دعم أكثر من 6 آلاف جندي مغربي يؤمّنون النقط والواقع الاستراتيجية في موريتانيا في مواجهة هجمات البوليساريو.
بعد أيام قليلة من حدوث الانقلاب، خص الملك الراحل الحسن الثاني مجلة “باري ماتش” الفرنسية بحوار قال فيه إن وضعية القوات المغربية في موريتانيا جيدة، “فبعد الانقلاب تم إشعار ضباطنا الذين يتحملون مسؤوليات هناك، لأنه كما تعلمون فإن القوات المسلحة الملكية متمركزة في كل النقط من الزويرات إلى نواذيبو، كما أن علاقات الضباط الموريتانيين مع ضباطنا السامين وجنودنا لم تتغير، ولولا البيان الذي أذاعه الرديو لما علمت ثكناتنا الموجودة في عين المكان بالتغيير الذي حصل”.
وعن موقفه في حالة ما إذا كانت الجزائر وراء الانقلاب، قال الملك: “كان موقف المغرب سيكون موقفا بديهيا وذلك لعدة أسباب، يرجع السبب الأول إلى طبيعة العلاقات الثنائية بين البلدين، وخاصة ما يربط المغرب بموريتانيا من معاهدات للدفاع المشترك، وفي هذا الصدد كان المغرب سيتحمل مسؤولياته حتى نهاية المطاف، أما السبب الثاني فيكمن في تصريحاتي وتعهدي بأن المغاربة أمواتا وأحياء سيضحون بأنفسهم إلى آخر رمق كي لا يكون بينهم وبين إفريقيا نظام غير متعاون ولا يسير في نفس الاتجاه الذي يسلكه المغرب”.
هجوم الجزائر
في شهر شتنبر الموالي، خص الملك مجلة “الوطن العربي” بحديث قال فيه إن الأحداث التي وقعت في موريتانيا والتي نتج عنها انقلاب يوليوز هي أحداث لها أسباب داخلية محضة، “ذلك أن موريتانيا بعدما استقلت لم تأخذ لنفسها مهلة للتدبر والتحليل، بل هي كعدد من الدول اعتقدت أن من الصالح لها أن تختار في ذلك الحين طريقة وايديولوجية وميثودولوجية وأساليب للحكم لخلق نظام سياسي-اجتماعي”.
وأضاف الملك أن موريتانيا اختارت بعد أن استقلت، التيار العقائدي اليساري، “وربما لو كانت الأوضاع والعلاقات السياسية بين موريتانيا والمغرب علاقات عادية لما ارتمت موريتانيا في أحضان ما أسمته الاشتراكية إذ ذاك، ولوجدت في جوار المغرب من الأمثلة ومن النصح ومن الإعانة ما يجعلها تسير في طريق وسط بدون مجازفة…”.
وارتباطا بملف الصحراء، قال الملك إن المغرب كان دئما يطالب بصحرائه منذ الاستقلال، “والحجج والدلائل تدل بدون جدال على أن الصحراء كانت دائما مغربية، ولكن الجزائر لم ترد للمغرب أن تكون له حدود مشتركة مع افريقيا. لا أقول مع موريتانيا، ولكن مع إفريقيا. الجزائر التي اعتادت أن ترى المغرب مطوقا، إما بينها وبين البحر وإما بين الصحراء وبين البحر، لم تكن لترضى أن ترى المغرب يشرئب شمالا إلى أوربا بواسطة إسبانيا ويتصالح مع إسبانيا… ولم ترد أن ترى المغرب يضرب جذوره في جنوبه في إفريقيا الأصلية، لذا حاولت أن تضرب بحجر واحد عصفورين”.
وذكّر الملك بالاتفاق الذي جمعه بالرئيس المختار ولد دادة، وكيف أصبحا يعتبران “أن مشكلة الصحراء لن تفرقنا، بل ستكون جامعة للشمل، والخطأ الكبير الذي ارتكبه المخططون الجزائريون هو أنهم جعلوا من أركان سياستهم الظن بأن الاتفاق بين المغرب وموريتانيا مستحيل. لكن المستحيل تحقق، وبعد المسيرة الخضراء واسترجاع الصحراء، وقع ما وقع من الأحداث ووجدت موريتانيا نفسها أمام وضع لم تخطط له”.
هذا الحديث الدبلوماسي كانت الجزائر ترد عليه بمزيد من السلاح والضربات الموجهة ضد القوات المغربية في الصحراء، فيما حرص الملك بشكل دائم على تجنب الانتقال إلى حرب مباشرة بين المغرب وبين الجزائر.
ففي 2 أكتوبر 1978، وجه الملك الحسن الثاني رسالة إلى الرئيس الجزائري هواري بومدين تقول: “أتصل بكم اليوم لأحتج بشدة لدى فخامتكم في موضوع الاعتداء الذي وقع على بلادي ما بين 30 شتنبر وفاتح أكتوبر 1978… وإنني لن أخفي عليكم شعور الاستغراب والاندهاش الذي يخامرني، ذلك أن العمل الذي قامت به القوات المسلحة الجزائرية لا يستجيب للتعقل ولا للمنطق… قد ذهب عدد من الموتى والجرحى ضحية الجهل المقصود بعقد ثابت الصحة دوليا، فماذا تريدون بالضبط سيدي الرئيس؟ وماذا تريد الجزائر إذن؟”.
سؤال ردّ عليه بومدين حينها بمزيد من الهروب إلى الأمام، فيما يورد تقرير مفصل للمخابرات الأمريكية يحمل تاريخ 23 مارس 1979، أن الحرب تدور في مصلحة جبهة البوليساريو، وإن التطورات المسجلة حينها تفيد بان المغرب لن يحتفظ طويلا بسيطرته على الصحراء مع استمرار تدفق الأسلحة الجزائرية في يد الميليشيا الانفصالية.
“المتاعب المغربية تضاعفت مع إعلان موريتانيا انسحابها من النزاع، سامحة بذلك للميلشيا بتركيز هجومها على القوات المغربية داخل المنطقة التي تديرها المملكة من المنطقة المتنازع عليها”.
التقرير يضيف أن ما بين 3 آلاف و5 آلاف مقاتل في صفوف البوليساريو، لا يستطيعون دحر القوات المغربية خارج الصحراء، لكنهم قادرون على جعل ثمن هذا البقاء باهظا بالنسبة للمغرب. ورجّح التقرير الأمريكي أن تتصاعد المعارضة داخل المغرب ضد الحرب في الصحراء، مما سيضعف موقف الحسن الثاني التفاوضي، مضيفا أن اتفاق المغرب وموريتانيا على اقتسام الصحراء لم يحصل على اعترافات دولية كثيرة.
منعطف اتفاق الجزائر
ما خشيه المغرب حصل بالفعل. وتبديدا لأي شك حول الجهة التي تقف وراءه، فإن الاتفاق بين موريتانيا والبوليساريو وقّع في العاصمة الجزائرية.
وفدان يمثلان الطرفين، اجتمعا رسميا بين 3 و 5 غشت 1979، ووقّعا على وثيقة تلتزم بموجبها موريتانيا بالانسحاب من الصحراء وتسليم الجزء الخاضع لسيطرتها لجبهة البوليساريو، وذلك بعد سبعة أشهر من توقيع الاتفاق، أي أن وادي الذهب كان سيصبح تراب دولة البوليساريو ويمنحها فرصة الوجود المادي لأول مرة.
بعد نحو أسبوعين من توقيع الاتفاق، قال الملك في خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، إنه سمع من جانب مسؤولين موريتانيين أن بلادهم مازالت متشبثة بعهودها ومعاهداتها بالنسبة للمغرب.
“أقول لك شعبي العزيز أن المسؤولين الموريتانيين لا ينوون تقديم رجل أو تأخير أخرى إلا باستشارة وتنسيق تام مع المغرب، إذن من هذه الناحية شعبي العزيز عليك أن تطمئن، ولكن علينا ألا نقف أمام هذا، علينا أن نسير شيئا ما بتفكيرنا ومنطقنا، ما هو واقع في المغرب ليس هو ما يقع في موريتانيا، فهي لها مشاكلها بالنسبة للصحراء التي استرجعتها وبالنسبة للمعارضين الذين دخلوا في صفوف البوليساريو، نحن بالنسبة للمغرب ليست لنا هذه المشكلة، فعلينا إذن إذا اختارت موريتانيا طريقا من الطرق أن نكون بجانبها، شريطة ألا يكون حل مشاكلها يمس بنقطة من النقطتين التاليتين:
- ألا يمس بشبر واحد من الأرض المغربية،
- وألا يجعل حدودا أجنبية بين المغرب وموريتانيا.
إنني أقول لإخواني في موريتانيا: إياكم ثم إياكم أن تنطلي عليكم الحيلة، فالذين يتودّدون الآن لكم هم الذين خلقوا ومولوا ودربوا وسلحوا من كانوا بالأمس يقتلون أولادكم وأبناءكم ولا يحترمون أعراضكم”.
فتاوى الحسن الثاني
بين تاريخ الانقلاب في موريتانيا ومسارعة الجيش المغربي إلى فرض سيطرته على “تيرس الغربية”، ولحظة قدوم شيوخ وأعيان الإقليم لتقديم بيعتهم في غشت 1979، واصل الحسن الثاني مرافعاته الدينية والتاريخية والدبلوماسية لتأصيل ما يقدم عليه من خطوات.
ففي مساء يوم 2 غشت 1979، وفي افتتاح درس حسني رمضاني، ألقى الملك الحسن الثاني خطابا مطولا حول التطورات الحاصلة في إقليم وادي الذهب والعلاقات مع موريتانيا قال فيه:
“إننا صرّحنا مرارا وما زلنا نصرّح، بأن موريتانيا دولة ذات سيادة، فلها أن تشرّع كما تريد من الناحية الداخلية في حدود بلدها الدولية المعترف بها اليوم والمتعامل بها اليوم، لكن هناك نظرية تجعل الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف ذات الصبغة الدولية تلزم الموقع عليها أكثر مما يلزمه القانون الداخلي، وبعبارة أوضح، لا يمكن لموريتانيا أن تتخذ، كما لا يمكن للمغرب أن يتخذ، تشريعا داخليا يجعل أو يتجاهل ما بين الدولتين من اتفاقات دولية… فإذا قامت موريتانيا بعمل مثل هذا، فسوف يكون على المغرب إذاك أن يتحمل مسؤوليته، ولا أقول مسؤولياته، أي المسؤولية الوحيدة الضرورية الواجبة، وهي مسؤولية الدفاع عن البقاء… وحين يقول بعض المسؤولين الموريتانيين إنهم سوف يسلمون ما لديهم من الإدارة فإنهم نسوا أو تناسوا أنهم نظّموا انتخابات محلية ووطنية في بلدهم، نسوا أو تناسوا أنهم أبرموا اتفاقيات مع دول مختلفة للصيد البحري على شواطئهم من الداخلة إلى نهاية جنوب موريتانيا”.
وفي تقرير مطوّل حول تداعيات الانسحاب الموريتاني من نزاع الصحراء، تقول المخابرات المركزية الأمريكية إن الجيش المغربي سيطر على الإقليم الذي كان تحت السيطرة الموريتانية في غشت 1979 وذلك بشكل أحادي. خطوة جاءت، حسب الوثيقة نفسها، مباشرة بعد إقدام السلطات الموريتانية الجديدة على التنازل عن هذا الإقليم لصالح البوليساريو.
وبعد تذكيرها بالتصويت المضاد للمغرب في قمة منظمة الوحدة الإفريقية التي انعقدت في يوليوز من السنة نفسها، تقول الوثيقة إن الصراع بات أكثر من أي وقت مضى، مواجهة مباشرة بين المغرب والجزائر.
تحرّك مغربي من أجل البقاء
بعد استقباله وفود الأعيان الصحراويين المنحدرين من وادي الذهب وتلقيه بيعتهم، عقد الملك يوم 19 غشت 1979، ندوة صحافية بقصر فاس حضره نحو 200 صحافي من المغرب ومن الخارج قال فيها إن من المهم معرفة أن محكمة العدل الدولية قالت إن هذه الأرض لم تكن أرضا خلاء، “ولهذا فإن ما يمكن تسميته باتفاق الجزائر لم يكن في الواقع سوى بطاقة تافهة وقعت في لحظة عابرة. فلقد جعل من وادي الذهب أرضا خلاء من الناحية القانونية، لأنه أراد تسليم أرض إلى جهة لا وجود لها وعي البوليساريو، ولهذا توجّهنا إلى الداخلة عندما استقبل المغرب سكان الداخلة فإنه في الواقع دافع عن المشروعية وعن قرار محكمة العدل الدولية”.
وردا على سؤال يقول إن المغرب أعطى موريتانيا حسب اتفاقية مدريد جزءا من الصحراء، قال الحسن الثاني إن هذا الأمر لا تتضمنه اتفاقية مدريد، “في الحقيقة لو لم يتفق المغرب مع موريتانيا لوضع السؤال أو السؤالين على محكمة العدل لكانت المعارضة الإفريقية وبعض الدول الأوربية والعالمية ستمنع إلقاء السؤالين أمام المحكمة… إذن الاتفاقية بين المغرب وموريتانيا حول الصحراء مرحلة ضرورية، وقد ظهر الآن انها مسألة حادثة وليست قارة”.