story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

اربطوا ترامب!

ص ص

يحكى أن فلاحاً مغربيا كان يتناول عشاءه في منزله بعد يوم عمل شاق، فظهر له أن عجلا من عجوله غير مربوط ويتجول عشوائيا في ساحة المنزل، فأمر أحد أبنائه، المسمى بوشعيب، بربط العجل في مكانه، من شديد فرحته بالثقة التي وضعها فيه والده، وفي محاولة منه لإظهار قوته وبراعته؛ نهض بوشعيب هذا مسرعا فإذا به يضرب القنديل الذي كان يضيء المنزل وأطفأه، فصار كل شيء مظلما.

ولأن بوشعيب لم يعد يرى شيئا بعد ذلك، داس على الصحن الذي كان يتعشّى منه والده فانقلب، تلطخ وجه أبيه وملابسه ببقايا الطعام، ثم داس على رجله فكاد أن يكسرها… حينها بدأ الفلاح المفزوع مما يحصل يصيح قائلا: “اربطوا بوشعيب واتركوا العجل،، اربطوا بوشعيب أولا.. اربطوا بوشعيب واتركوا العجل”، لعل ذلك يحد من الخسائر التي تسبب فيها.

تنطبق هذه الطرفة على ما يقوم به ترامب في كل ما تدوسه قدماه أو يصل إليه علمه أو سمعه أو بصره. كان العالم يشهد فوضى وحروبا ومشاكل كبيرة قبل مجيئه، وظن الجميع، كما كان يصرح ترامب بأنه سيحل تلك المشاكل ويوقف الحروب في أوكرانيا وغزة وغيرها، ويعيد الأوضاع الدولية إلى حالة من الاستقرار والنظام.

ما حدث كان العكس تماما. وآخر حوادث ترامب هو تصريحه خلال زيارته الأخيرة لبريطانيا بأنه يسعى للعودة إلى أفغانستان واسترجاع قاعدة “باغرام” الجوية التي بناها الاتحاد السوفياتي في خمسينيات القرن الماضي. والمبرر هذه المرة هو قرب هذه القاعدة من أحد المواقع النووية الصينية.. هكذا بوضوح وبساطة.

داس ترامب على كندا وكاد يقلبها، ووطأت قدمه جزيرة غرينلاند ولكن الله سلّم، لحد الآن على الأقل، ثم عاث تكسيرا وتدميرا في اقتصاديات عدد من الدول عبر الرسوم الجمركية التي صارت مثل سيف داموقليس فوق رقاب الأصدقاء والأعداء على حد سواء. ولحد الآن، مازال العجل الذي كان يفترض في الرئيس ترامب أن يربطه حرا طليقا، بينما راح يهدد بالتهام الصين التي تبين له أن عظامها صلبة، تركها وراح يرفس الهند، وفرض عليها رسوما جمركية تبلغ 50%، ونعتها بالاقتصاد الميت، فارتمت في أحضان التحالف الروسي-الصيني، وأغلقت في وجهه إحدى النوافذ التي كان يطل منها على أعداء أمريكا في المنطقة.

قبل يومين، وقّع ترامب قرارا رئاسيا يفرض من خلاله على التأشيرات المتعلقة باستقطاب الكفاءات من الخارج، مبلغ 100 ألف دولار على التأشيرة الواحدة (للعلم كانت الرسوم المتعلقة بهذا النوع من الفيزا تتراوح بين ألف وخمسة آلاف دولار فقط). طبعا من سيتضرر من هذا القرار هو قطاع التكنولوجيا المتطورة والذكاء الاصطناعي، لأن أمريكا تستورد العقول التي تستأثر بالعمل وتطوير هذه القطاعات من الخارج وتحديدا سبعون بالمائة منهم هنود. قرار مدمّر وغير مفهوم بتاتا، وهدية رائعة ومجانية للصين.

واليوم يطلع علينا ترامب، بقرار يتعلق بالسعي للعودة إلى أفغانستان، وبالضبط إلى قاعدة “باغرام” شبه الحدودية مع الصين (تبعد عناه ب92 كيلومتر فقط). ولا يُخفي ترامب أنه يسعى لذلك من أجل مراقبة الموقع النووي الصيني القريب منها، ويكاد هذا الأمر يعتبر إعلان حرب من طرف ترامب على الصين .

كل هذا علما أن عِجل الحرب الأوكرانية الذي كان يفترض في ترامب أن “يربطه”، انطلق أصلا بسبب اقتراب الولايات المتحدة والحلف الأطلسي أكثر من اللازم من الحدود أو الحظيرة الروسية، وهو ما اعتبرته موسكو تهديدا لأمنها وسلامة أراضيها فاضطررت لتقرير ما يسمى “العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا” أي السيطرة العسكرية على منطقة الدونباس .

لقد شهدت أفغانستان تعزيزا كبيرا لعلاقاتها مع روسيا مؤخرا، وحذفت موسكو طالبان من لائحة المنظمات الإرهابية، وتوجد اتفاقيات تعاون استراتيجي قيد الدراسة، ومنها ما هو قيد التنفيذ بين موسكو وكابول، وروسيا تعرف أن قاعدة “باغرام” البعيدة لا تبعد سوى قرابة ثلاثة آلاف كيلومتر منها، وقد تستعمل لمهاجمتها بسهولة بواسطة الطائرات المسيرة أو الصواريخ طويلة المدى. لكن الأهم هو أن القاعدة تعتبر قريبة جدا من ممرات الطاقة من روسيا نحو الصين وإيران.

وقّعت روسيا كذلك منذ ماي الماضي، عدة تفاهمات تتعلق بالطاقة والتجارة ومجالات مدنية أخرى مع كابول. والحقيقة أن كل تلك الاتفاقيات إنما تمهد الطريق فقط، وتبني الثقة بين روسيا وأفغانستان من أجل اتفاق استراتيجي شامل لن يتأخر الإعلان عنه وسيكون للرئيس ترامب كبير الفضل في تحقيقه.

دعونا الآن نذهب إلى الصين، لنكتشف أن بكين وقعت في شهر ماي من سنة 2024 اتفاقا استراتيجيا شاملا، أي يحتوي على بعد أمني، وهو ما يعتبر مدخلا مستقبليا لأي تعاون عسكري بين البلدين. ومرة أخرى سيكون السيد ترامب كبير الفضل في تحقيق ذلك وبسرعة، بل إن هناك حوارا ثلاثيا بين الصين وباكستان وأفغانستان حول القضايا الأمنية في المنطقة.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار التردي الذي تشهده العلاقات الباكستانية الأمريكية في الفترة الأخيرة، فإن من الواضح أن إسلام أباد لن تسمح، مثلها مثل موسكو وبكين، باسترجاع قاعدة “باغرام” العسكرية الجوية من طرف الأمريكان.

خلاصة القول أن قرارات ترامب لن تساعد إطلاقا في تحسين الوضع السياسي والأمني الدولي بقدر ما ستساهم في تأزيمه، وأن ترامب سيتسبب عاجلا أو آجلا في اندلاع حروب جديدة قد تكون أمريكا طرفا مباشرا فيها، أو حرب أهلية أمريكية داخلية بدأت بوادرها مع عملية اغتيال شارلي كيرك.

لذلك دعونا نتفق مع الفلاح المغربي أنه من مصلحة الجميع أن يُربط بوشعيب حتى وإن بقي العجل طليقا، لأنه لن يتسبب في خسائر أكثر من تلك التي تسبب فيها بوشعيب.. ولا يزال.