story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إيران الملاك والشيطان

ص ص

لا مفر في بداية هذا الأسبوع من تناول موضوع الهجوم النوعي وغير المسبوق الذي نفّذته إيران أول أمس السبت ضد إسرائيل، بواسطة أسراب من الطائرات المسيّرة والصواريخ، بما أنها المرة الأولى في التاريخ القصير لإسرائيل، التي تتعرّض فيها لهجوم مباشر من دولة خارج “الطوق” العربي (الذي لم يعد طوقا في جميع الأحوال).
فحتى القوات العسكرية المغربية والعراقية التي شاركت في حروب سابقة ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، كانت تخوض معاركها انطلاقا من الجوار المباشر لإسرائيل.
سوف لن أضيع وقت القارئ في مقالة إضافية حول موضوع “المسرحية” الذي استأثر بالنقاش في المجال العربي، والذي أعتبره شخصيا من تمظهرات نهج التسطيح والتسفيه الذي يتعرض له الوعي الجماعي لشعوب المنطقة. نقاش يصوّر عملا عسكريا من حجم الهجوم على الدولة الأعلى كلفة في تاريخ البشرية الحديث، من حيث الأرواح والأموال والعتاد، كأي هجوم يقوم به رجل غاضب ضد جار اعتدى عليه، فيحمل عصاه أو شفرته الحادة ثم يقصد بيته عازما على تصفيته.
الحرب ومنذ عرفتها البشرية، كضرورة حتمية لفض النزاعات واسترجاع الحقوق وجني الامتيازات وإحقاق السلم في بعض الأحيان، تدبير وتخطيط يستدعي التحضير ونسج التحالفات وتحييد من لا ضرورة أو مصلحة في مواجهتهم، بل وفي كثير من الأحيان اتفاق مسبق بين المتحاربين أنفسهم، حتى تتم الحرب في حدود الضرورة ولا تخرج عن السيطرة أو تسمح بتدخل أطراف ثالثة لاستغلالها.
من يقدمون الاتصالات التي قامت بها إيران قبل شن هجومها على إسرائيل، كما لو كان كشفا عظيما أو دليلا على “المسرحية”، ينسون أن الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا أعلنها الرئيس الأمريكي قبل وقوعها، وأن قادة المخابرات الروسية والأمريكية بقيا على اتصال، حتى في ذروة المعارك التي تدور في الواقع بين أسلحة روسية وأخرى أمريكية، وأن التدبير السياسي والاستخباراتي جزء من الحروب.
ما يهمني أكثر في هذا التطور النوعي في الوضع الجيو-سياسي في منطقة الشرق الأوسط، هو العودة إلى قراءة ومساءلة الاختيارات المغربية تجاه هذه المنطقة التي يبدو أنها ستواصل دورها كصانعة للنظام العالمي في انتظار تحقق الانتقال الموعود لقلب العالم، من البحيرة المتوسطية إلى المجالين الأطلسي والهادي.
فإذا كان السلوك المغربي في القضية الفلسطينية بصدد تطوير موقف جديد يجمع وللمرة الأولى بين دعم ومساندة الشعب الفلسطيني، وإقامة علاقات دبلوماسية عادية، بل إيجابية وقوية، مع إسرائيل، فإن من بين ما ميّز الاختيارات الدبلوماسية الحديثة للمغرب تجاه تقاطبات المنطقة، اختيار الوقوف إلى جانب إسرائيل ضد إيران.
اختيار مهّد له المغرب قبل الإعلان عن عودة العلاقات الرسمية مع إسرائيل متم 2020، بإعلانه القطيعة التامة مع طهران سنة 2018، بعد اتهام سفارتها في الجزائر بدعم جبهة البوليساريو، ومرور وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، عبر أعمدة صحيفة أمريكية معروفة بخطها الداعم لإسرائيل، وهي صحيفة “بريتبار” الإلكترونية، لمهاجمة إيران، قبل دخوله مكتب مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي، جون بلتون، في فترة كان فيها حاكم البيت الأبيض، دونالد ترامب، منغلقا تجاه المغرب.
ما من شك أن للمغرب كامل الحق في نهج سلوك دبلوماسي هجومي وقوي ضد من يعاكس مصالحه العليا أو يدعم خصومه بالمال أو السلاح أو الدبلوماسية… لكن هناك فرق بين أن يكون هذا المعطى محددا لطبيعة العلاقات الثنائية مع أي دولة، وبين الاستثمار في التناقضات والخلافات الدولية والإقليمية. والسلوك الدبلوماسي المغربي تجاه إيران شهد بالفعل هذا التحوّل من انضباطه لمنطق المصالح العليا إلى محاولة الاستثمار في تناقضات قوى دولية، وهو ما يطرح سؤال الجدوى والفعالية، بالنظر إلى أنه اختيار ينطوي على مخاطر مثلما يغري ببعض المكاسب.
ما من شك أن بين المغرب وإيران تناقضات عميقة، تعود إلى الساعات الأولى لإعلان الثورة الإسلامية في طهران، حيث كان المغرب سباقا إلى استضافة الشاه المطاح به، بل ولم يتأخر الملك الراحل الحسن الثاني في مهاجمة الخميني ووصفه بنعوت لا داعي للتذكير بها.
ويمكن تلخيص هذه التناقضات في البعد الديني بين المذهبين الشيعي والسني، وبين فكرتي “ولاية الفقيه” و”إمارة المؤمنين”، وفي ارتباط المغرب بعلاقات سياسية واقتصادية قوية مع دول الخليج العربي التي تقع تحت التهديد المباشر للطموحات الإقليمية لإيران، كما تتعارض المصالح المغربية والإيرانية في المجال الافريقي من خلال اصطدام قوتيهما الناعمتين في مجالات حيوية بالنسبة للمغرب…
لكن السردية الرسمية الجديدة للمغرب، منذ 2018 على الأقل (قطيعة 2009 كانت مبررة بالأسباب التقليدية ومرتبطة بوقوف المغرب إلى جانب البحرين ضد ايران)، تنبني على معطيين جديدين، هما الدعم الإيراني للبوليساريو، والاستثمار في العداء الغربي-الإسرائيلي تجاه الجمهورية الإسلامية، لمحاولة تحصيل مكاسب جديدة من الحلفاء الغربيين.
ركيزتان تطرحان أسئلة الضرورة والجدوى.
هل إعلان القطيعة هو السبيل الوحيد لإبعاد إيران عن المشروع الانفصالي في الصحراء؟ هل استنفدنا جميع الوسائل التي نستعملها عادة مع الداعمين للبوليساريو، والتي وصلت في إحدى اللحظات إلي إعلان الاتحاد والوحدة مع ليبيا القذافي ل”إسكات مدفع موجه نحو المغاربة” كما قال الحسن الثاني؟ وهل ثبت لنا أن الاصطفاف إلى جانب إسرائيل ضد ايران أفيد لمصالحنا من اللعب علي حبل التناقضات بين الجانبين كما تفترض الدبلوماسية الواقعية؟
هنا، وبعيدا عن ثنائية الملاك والشيطان الساذجة التي يقارب بها البعض سلوك الدول، تكمن بدايات النقاش الذي يفترض أن يخوضه المغاربة على ضوء التطورات الجيوسياسية الجديدة، والتي تفيد أن إيران باتت رقما أساسيا في معادلة دولية آخذة في التشكل، يجعلها في قلب المحور الروسي الصيني، بينما لم يتأكد لنا بعد ما يفيد أن المحور الغربي يتعاطى جديا مع مصالحنا العليا والحيوية.