إلى السيد ماكرون
مع السلامة ضيف المغرب الكبير إيمانويل ماكرون. ضيف الملك محمد السادس.
زيارتكم السيد الرئيس عَنَتْ الكثير للمغرب على صعيد الموقف. موقفكم من الصحراء المغربية سيبقى ذا أثر لفترة من الزمن، وهو تأكيد لحقيقةٍ، وتعديلٌ لازمٌ لموقف فرنسي طالما بقيَ رمادياً، مع تقديرِ دعمٍ سابق ومتواترٍ في أكثر من محفلٍ (..) استُعْمِل مرّاتٍ حَجَراً في حذاء هذا الوطن.
زيارتكم السيد ماكرون سعيٌ لطيٌّ لصفحات خلافٍ نجهل عنه الكثير وعن خلفياته ومسبّباته وحساباته، إلا تأويلات وتفسيرات الملاحظين، لكنه كان ظاهراً رصدته العين، ولُمِست آثاره في السياسات، من جانبكم أساساً.
مرة تحدثوا عن سوء تقدير خلال محاولة ميلٍ فرنسي نحو الجزائر على حساب المغرب، وأحاديث عن بيغاسوس، وعن توترٍ وإساءة ذاتَ اتصالٍ هاتفي بين قائديْ البلدين كتب عنه مرافق لكم في الوفد، الكاتب الفرنسي المغربي الطاهر بنجلون، ما لا يسَع إلا قليلين إثباته أو نفيه. وعلى كل حالٍ، لم ينْفِه أحدٌ ذو بال.
بحسابات الدول وبرغماتيتها تصحّ مثل هذه الاستدارات والانعطافات. لا شيءَ شخصيٌ، والمصالح تتفوّق على الخلافات إذا غلَبت ورجحت كفّتها.
ربما لا يهمّ كل الذي مضى، شأن كلّ الدولِ المجّردة من العاطفة، وما يهمّ أكثر هو الآتي، والذي قيل عنه الكثير خلال زيارتكم، وما سيلحقها.
قيل إنها صفحة جديدة، وروحٌ متجدّدة بُثّت في علاقات متينة وراسخة وثابتة، وتاريخية.
لربما، وما يعني مغربياً، أن ما كان مُلتبساً أصبح أوضحَ. صار موقفكم من الصحراء المغربية أكثر دقةً، وما يستتبعه من استبدال إداراتكم ومواقعكم للخرائط بعد كلام كبيرٍ يغيّر في ميزان العلاقات وقد جرى الانتصار لحقيقة مغربية الصحراء، بعدما اعتبرتم مقترح الحكم الذاتي حلّا للمستقبل.
ومع ذلك، سيكون مفيدا أن يُعرف متى تسجلّون موقفكم الجديد رسمياً في الأمم المتحدة، حتى يكون لازما وملزماً وذا أثر قانوني، لكم ولمن سيدخل بعدكم الإليزيه. القضية تعني المغرب شعبياً ورسمياً، لنُغادر المنزلة بين المنزلتين، إلى آفاق تقولون، وتقول الدولة المغربية، إنها ستكون أرحب.
الصحراء بالنسبة للمغرب تتجاوز المساحات وحبّات الرمال والمنافذ إلى المحيط وثرواتٍ إلى رمزية شديدة الحساسية، بالنسبة إلى النظام السياسي، وشعبياً. تلك روافد التاريخ وأواصر لا يجب أن تنقطع، حفظا لسلامة هذا الوطن من التفتّت، وصيانة لأمنٍ إقليمي ودولي لا يتحمّل مزيداً من الوقود قريباً من نار الهشاشة الأمنية والاقتصادية والسياسية.
السيد ماكرون،
لو تخلّصت الجزائر، شفاها الله، من داءِ العداء للمغرب لكانت العلاقات أكثر سويّةً، وأكثر معقوليةً، وأكثر نفعيةً وتوازنا. المغرب لا يُفترض أن يُقايِض على صحرائه بمواقفَ هنا أو هناك، أو بصفقات واستثمارات وامتيازات. لسنا في مزادٍ لأجل حقّ ثابت ومُثبت. لا يجب أن نُقايِض على ما نملك وما نستحق.
والمغرب يملك من إرث الماضي، وصلابة حقائق الحاضر، وتطلعٍ إلى المستقبل، ما يجعل الطموحَ أكثر من تكريس حقيقةِ الصحراء المغربية، إلى تحالفات وشراكات ووحدةٍ تشمل كل هذا الإقليم المغبون الذي يقع على الضفة المقابلة لأوروبا، بكل ثقله وحضاراته، وتنوّعه وغناه، ليكتسِب وزناً تُجلِسه ندّاً على طاولات التفاوض الدولي.
ولو تدري الجزائر كمْ تُهدر من مقدرات شعبها لأجل وهمٍ دُوَيْلةٍ يلْفِظها المستقبل. ولو تدري الجزائر كمْ تطرح على المغرب أثقالا تَشُدُّه إلى أرض المُفاوضة على حقّه. ولو تدري الجزائر كم تُفَوّت على منطقتنا من فرصٍ.
السيد ماكرون،
إن كان من واجبٍ للضيافة فقد تم. كنت ضيف الملك محمد السادس في زيارة دولة، وقد شهدتَ حفاوة تليق بموقفكم المستجد والواضح والتاريخي بشأن الصحراء المغربية. لكن صحافياً مثلي، يطالعُ باستمرار موقف الدولة المغربية المكتوب من قضية فلسطين، التي تضعها بمنزلة الصحراء، أزعجه كلامكم في البرلمان عن عملية 7 أكتوبر في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
للأسف الشديد جملٌ قليلة ضمن خطابكم هي تكثيفٌ لزيفٍ مستشرٍ في العقل الغربي.
التاريخ لم يبدأ من 7 أكتوبر. لم يبدأ من اللحظة التي أطلقت فيها حماس عمليتها ضد الاحتلال الإسرائيلي. تاريخُ القضية سبعون عاما من الاحتلال وأكثر، كانت دولتكم، العضو الدائم في مجلس الأمن، طرفا فيه لتأبيد معاناة الشعب الفلسطيني.
ومع ذلك، يدركُ المتابع فروقاً في موقفكم لا تخفى عن أمريكا مثلا التي تفتح مخازن أسلحتها وكل ثقلها الاستراتيجي لإبادة الفلسطينيين، ولا عن جارتكم ألمانيا التي لم تَبْرَأْ من آثار تاريخها العُنفي ضد اليهود حتى صارت تبرّر اليوم إبادة الفلسطينيين في تصريحات مخزية لوزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك والمستشار المُتحمّس لمزيد من القتل أولاف شولتس، منتقلة من تطرّف ضد اليهود إلى تطرّفٍ لصالح الصهيونية.
ندرك قيمة أن تطالبوا بوقف تسليح إسرائيل لوقف الإبادة الجماعية الجارية في غزة (طبعا لم تصفوها بالإبادة)، ولوقف شهوة الحرب والانتقام التي تسيطر على عقل السلطة السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال. وندرك أيضا قيمة أن تمنعوا شركات إسرائيلية من معارضكم الخاصة بالصناعة العسكرية على ما فيه من رمزية.
لكنكم في الغرب تتشاركون في ترديد مقولة تحفظونها عن ظهر قلب وترددونها بصوت واحد لازمةً مُلزمة: (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)، كما رددتها في خطابكم أمام البرلمان المغربي، لتُسَوِّغوا بعدها كل فعل مجرمٍ وبشع تقترفه إسرائيل باسمها وباسمكم جميعا أنتم “حماة الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان” و”العالم المتحضّر”.
السيد ماكرون،
كان كلامكم في البرلمان المغربي شارداً عن الواقع: البربرية ترتكبها إسرائيل. الهمجية علامة مسجّلة باسم دولة الاحتلال.
وإذا لم تعتبروا قتل 43 ألف إنسان إرهابا، كيف تعتبرون مقتل العشرات وحشيا؟!!
وإذا لم تصنّفوا قتل 17 ألف طفل في غزة إبادة، كيف يكون لكم حق التباكي عن أطفال تزعمون أن حماس قتلتهم؟!
وهل أطفالٌ في قاموسكم السيد الرئيس أكثر طفولةً من آخرين؟ هل تعتبرونهم، مع نتنياهو، أطفالَ ظلامٍ غير جديرين بالحياة؟
وهل كان ضروريا، أصلا، أن تهاجموا المقاومة الفلسطينية من على منبر البرلمان المغربي؟
جزءٌ كبيرٌ من المغاربة يدعم الفلسطينيين في نضالهم للتحرّر من الاحتلال، كما كثيرٌ من مواطني دولتكم ممن تمنعونهم، دوساً على القانون في بلد الحريات، من التضامن مع الفلسطينيين.
واضحٌ للمُنصِفِ أن 7 أكتوبر ردّ فعلٍ على الاحتلال، وليس بداية التاريخ. ودون ترتيب هذه الحقيقة لا يمكن تصنيف أي خطاب إلا ضمن التدليس المقصود والمتواطئ مع الاحتلال والمتماهي مع سرديات مُضَلٍّلة.
السيد ماكرون،
حين أخذتكم الحماسة ودعوتم، يوم 24 أكتوبر 2023، بعد عملية طوفان الأقصى، لتحالف دولي ضد حماس، على شاكلة التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، تعمّدتم الخلط بين حركة مقاومة وحركة إرهابية، ولا زلتم تَصْدُرون عن نفس الرؤية، التي لن تدفع نحو الحلّ قيدَ أنملة. يومها أعطيتم نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة الضوء الأخضر لارتكاب الإبادة، حتى إذا أدركتم فداحة ما يجري في غزة دعوتم إلى وقف تسليح الجيش الإسرائيلي، قبل أن يتطاول عليك رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزراؤه بكلام جارح في حقكم وحقّ دولتكم، ووصف طلبكم بـ”العار”.
بشأن فلسطين، ندرك أنكم تحت ثقل تاريخ قارتكم ودولكم العُنفي تجاه اليهود، والذي بلغ ذروته مع الهولوكوست النازي الوحشي. لهذا تتمنّعون عن اتخاذ الموقف الصواب. لكن، أنتم حماة الحقوق، الرافضون للجرائم ضد اليهود في بلدانكم، كيف تقبلون إبادة شعب آخر؟
هي إبادة مزدوجة تقترفونها، حين أجرمتم في حق اليهود، وحين تدعمون ضحية الأمس لارتكاب إبادة ضد ضحية جديدة؟ مكر التاريخ ورُخْصُ الذمم.
وهل تسمحون لمجرد صحافي أن يضيف إلى سيادتكم حقيقةً: نحن سكان هذه المنطقة لا عداوة لنا في التاريخ مع اليهود. أهلي وناسي الأمازيغ ساكنوا اليهود وعايشوهم. في بلدي تراثٌ عظيم لليهود، ننتمي إليهم وينتمون إلينا.
هنا فرقٌ جوهريٌ بيننا، ومع ذلك تحاكموننا بما اقترفتموه، لا بما اقترفنا. لهذا نستغرب حين تلقون في وجوهنا التهمة الجاهزة الناجزة الساحقة الماحقة: معاداة السامية.
نرفض الاحتلال. نرفض الظلم. نرفض الإبادة. نرفض القتل. نرفض الوحشية. نرفض قصف المرضى في المستشفيات. نرفض حرق الناس في الخيام. نرفض تجويع شعب… وهذه كلها أفعال إسرائيلية. والمقاومة رفضٌ لكل هذه البربرية والوحشية.
قصارى القول
السيد الرئيس،
موقفكم مقدّر من قضية الصحراء، بما هو إنصاف للحقّ، وإحقاق للعدل، ووقوف في الجانب الصواب. موقفكم من فلسطين سقوطٌ مستمر في امتحان الأخلاقية التي حملت دولتكم مشعلها قروناً.
يشغلنا معكم حق الإنسان في الحياة، وحقه في السكن، وحقه في العلاج، وحقه في التعليم، وحقه في الماء (تخيّل أن شعبا مُحتلاً تحرمه دولةٌ احتلال من الماء)… وها هي غزة محرومة من كل هذا.. وها هي غزة امتحان لكم ولنا. أرونا منكم ما ينسجم مع إنسانيتكم التي ترفعون لواءها، أما اتهام الضحية بالبربرية والوحشية فجنايةٌ في حقّ التاريخ والحقيقة.