story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إشارات ملكية

ص ص

هناك عمل نضالي كبير ينبغي على كل ذي ضمير حي أن يقوم به تفاعلا مع جريمة الإبادة التي تنفّذها إسرائيل حاليا في غزة. لكن هناك أيضا عمل بيداغوجي لابد من جعله تمرينا دائما، يتعلّق بكيفية توجيه البوصلة واتخاذ الموقف بعد محاولة التضليل الشامل التي تعرض لها المغاربة في السنوات الأخيرة.
من المخجل أن نضطر نحن أبناء هذه الدولة المرتبطة بالتاريخ والحاضر والمستقبل بفلسطين، إلى هذا التمرين حول الموقف السليم مما يجري، لكن خلط الأوراق ومحاولات تزييف الوعي التي جرت في الفترة الأخيرة تستوجب الانتباه إلى هذا الجانب أيضا.
وإذا كان بيننا من لم يفهم بعد أن ما يحصل في غزة هو درجة توحش غير مسبوقة بلغها مشروع استعماري واستيطاني خبيث يستهدف المنطقة كلها.. ولم يستوعب بعد كيف أن ما يصيب الفلسطينيين في غزة يصيب المغاربة بشكل مباشر ويؤذيهم، فما عليه سوى أن يراجع صور ولقطات المسيرات والصلوات والوقفات الحاشدة التي عرفنها عشرات المدن المغربية مساء الأربعاء 31 يوليوز 2024، غضبا لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية.
هناك من يصرّ إلى اليوم ورغم كل ما حصل أمامه من تفاعل يومي مع المأساة الجارية في غزة، على استعمال قاموس القرب والبعد، الوطني والأجنبي، تازة وغزة… بينما تفترض كل الأخلاقيات، بما فيها الأخلاقيات السياسية، استحضار المشاعر الإنسانية والمواقف والاختيارات التي يقوم بها الشعب، في أي سلوك تدبيري أو اتخاذ للقرار.
لا يتعلق الأمر بمعركة رأي ضد آخر، ولو مكان الأمر كذلك لكان الخلاف حول هذا الموضوع أشبه بنزهة في حديقة غناء. المعركة هي حول الوجهة التي ينبغي أن يتخذها القرار الرسمي للدولة في المغرب، والذي يحاول البعض منذ سنوات استحداث السياق الذي يبرر الانتقال المقيت من الموقف الأصيل للمغرب والمغاربة إلى جانب الفلسطينيين، إلى موالاة معسكر القتّالين، بمبررات واهية لم تعد تقنع أحدا.
ها هي ذي مشاعر المغاربة ماثلة أمام من يزعمون الحديث باسم الدولة العميقة في هذا الموضوع، تماما مثلما كانوا يزعمون تمثيلها في ملفات اعتقال ومحاكمة عدد من الصحافيين والمدوّنين، وأمعنوا في التنكيل والتشهير بهم، حتى جاءهم العفو الملكي الأخير ليصبحوا في وضعية “الله يحسن العوان”.
مظاهرات ومسيرات المغاربة المناصرين لفلسطين باتت في الحقيقة سلوكا يوميا في شوارع وساحات المدن، ولم تنتظر الاغتيال المقيت لإسماعيل هنية كي تخرج إلى الوجود. تماما مثلما لم تنقطع الخطب والبلاغات والرسائل الرسمية، وعلى لسان الملك شخصيا، المؤكدة للموقف الطبيعي للمغرب والمغاربة، مهما اضطرتهم الضغوط أو الاختراقات لوضع أيديهم في أيدي الكيان القتّال.
وها هو الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 25 لعيد العرش، يجعل القضية الفلسطينية موضوعا ثانيا إلى جانب أزمة الماء التي تعتبر تهديدا وجوديا بالنسبة للمملكة. وملك البلاد الذي يمعن البعض في تأويل اختصاصاته الدستورية كأمير للمؤمنين، وعلاقته بالمكوّن اليهودي لدرجة تسيئ إليه، يقول إن الاهتمام بالأوضاع الداخلية لبلادنا، لا ينسينا المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني الشقيق.
نعم، ملك المغرب يصف ما يجري في غزة بالمأساة، ويذكّر كيف أنه عمل بصفته رئيس لجنة القدس، على فتح طريق غير مسبوق، لإيصال المساعدات الغذائية والطبية الاستعجالية، ل”إخواننا” في غزة. “وبنفس روح الالتزام والمسؤولية، نواصل دعم المبادرات البناءة، التي تهدف لإيجاد حلول عملية، لتحقيق وقف ملموس ودائم لإطلاق النار، ومعالجة الوضع الإنساني”.
وأهم تفصيل ينبغي لمن يبحث عن معطيات تسعفه في توجيه البوصلة، يوجد في ثنايا قرار العفو الملكي بمناسبة عيد العرش، والذي لم يشمل صحافيين ومدوّنين فقط، بل امتدّ ليضم أسماء ثلاثة من أعضاء جماعة العدل والإحسان، التي يحلو للبعض أن يصفها بالمحظورة، والذين لم يحاكموا ويعتقلوا إلا بسبب تعبيراتهم المناهضة للتطبيع.
نعم، هذه معلومة تستحق الكثير من التبئير والتفكير، لأنها تصحّح الكثير من المغالطات التي يحاول بعض محترفي التضليل وخلط الأوراق تكريسها. فجماعة العدل والإحسان واحد من مكوّنات الطيف السياسي لهذه البلاد، ولا يوجد أي خروج عن القوانين والثوابت الوطنية في التفاعل والتواصل معها، وها هو الملك يعامل أعضاءها كما يعامل جميع المغاربة، ولم يعتبر انتماءهم هذا، الذي يسعى البعض جاهدا إلى جعله فزاعة يخيف بها من يحاور الجماعة وأعضاءها، سببا لاستثنائهم من العفو.
والأهم من ذلك، أن كلا من مصطفى دكار وعبد الرحمن زنكاض وسعيد بوكيوض، اعتقلوا وحوكموا وأدينوا بسبب تعبيراتهم المناهضة للتطبيع مع إسرائيل، بل إن أحدهم توبع بتهمة الإساءة للملك في ارتباط بأحد تلك التعبيرات، ولم يكن ذلك سببا لاستثنائهم من العفو.
العبرة من ذلك أن ما تقوم به الدولة من خيارات ينبني على تقديرات أو ربما تدبير لإكراهات. وقد يؤدي ذلك إلى قرارات صائبة ويمكن أن يسقطنا في أخرى خاطئة. ولهذا السبب تحديدا جعلت المواثيق الدولية والدساتير الديمقراطية حرية الرأي والتعبير محمية ومكفولة للجميع.
وكل من خطاب العرش الأخير وقرارات العفو الصادرة بالمناسبة، إسقاط لفزاعة التخويف من الصحافة الجادة، ومن التعبير عن الموقف الطبيعي المتضامن مع الفلسطينيين.
الإشارات الملكية تفيد أن الدولة لم تكفر بالحقوق والحريات كما يريد البعض أن يقنعنا. وفلسطين يا سادة ليست مجرد قضية سياسية، بل هي جزء من الوجدان المغربي، ملكاً وشعباً.
هي قضية توحدهم وتفجر مشاعر تضامنهم الجماعي. ومع فلسطين يشعر المغربي بأنه أمام جرحه الشخصي وقضيته الخاصة التي يتقاسمها مع إخوته في المواطنة، كباقي أحلامه وآماله.
الانسان المغربي يحمل فلسطين في صلواته وفي ضمير حياته اليومية، من أجلها يتبرع ويتظاهر ويهتف، ويعتقل ويحاكم ويسجن. أي أن فلسطين توحدنا وتقوينا وتحيينا.
ورحمة الله على أبطالها، إسماعيل هنية وإسماعيل الغول ومن سبقهم أو تبعهم من الشهداء.