story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إسبانيا.. الفرصة المؤجَّلة

ص ص

إذا أخذنا خريطة المغرب وإسبانيا وتركنا كل الخلفيات جانبا، سنصل إلى خلاصة بسيطة وموجِعة: بلد يُفصل عن جاره بأقل من أربعة عشر كيلومترا، ويتقاسم معه قرونا من الاحتكاك والحروب والهجرات والتداخل الإنساني، قرّر، طيلة نصف قرن تقريبا، أن يبني مستقبله وهو يدير ظهره تقريبا لهذا الجار، وينظر بعيدا إلى باريس وواشنطن. وبدوره البلد الآخر أدار ظهره لمستعمرته السابقة وخاطبها طويلا من موقع التعالي والتوجّس والريبة.

ما يفرض نفسه اليوم، ونحن على أبواب لقاء جديد ثنائي جديد في مدريد بين حكومتي المملكتين، وتنظيم مشترك لمونديال 2030، هو أن نعترف بهدوء بأن المغرب تأخّر كثيرا في “اكتشاف” إسبانيا كشريك استراتيجي طبيعي، وأنه آن الأوان لتحويل هذا “الاكتشاف المتأخر” إلى خيار واضح لا مجرد حالة عابرة من دفء دبلوماسي.

بعد الاستقلال، رسمت خرائط النفوذ الاستعماري اتجاه البوصلة المغربية: فرنسا كانت صاحبة الحصة الأكبر من “الاتصال في ظل الاستقلال”، فصارت الفرنسية لغة الإدارة والاقتصاد والارتقاء الاجتماعي، وصارت باريس المرجع السياسي والثقافي الأول.

وإسبانيا، التي مارست الحماية في الشمال والجنوب، حُشرت في زاوية “المستعمِر الصغير”، كأن بين المستعمرين اختلاف، وارتبط اسمها في المخيال الرسمي أكثر بسبتة ومليلية والصيد البحري ومشكل الصحراء، لا بفرص التكامل الاقتصادي والبشري.

ثم جاء الانفتاح على الولايات المتحدة، واتفاق التبادل الحر، فزاد على هذا الاختيار الفرنكفوني رهانٌ أطلسي جعل جارنا المتوسّطي الأول “يبتعد” عنّا أكثر.

الخيار اللغوي والثقافي كان بدوره جزءا من المشكلة. لغة “سيرفانتيس” ومعه أكثر من 600 مليون إنسان في ثلاث قارات، بقيت لعقود في الهامش التعليمي، رغم أن المغرب كان، بحكم التاريخ والجغرافيا، واحدا من أكبر خزانات المتحدثين بها خارج العالم “الهيسباني”.

شمال المملكة وجنوبها تركا لنا نخبة مدرسية وثقافية وإدارية، ظلت لفترة “غنيمة” معلّقة في الهواء: لا هي مُدمجة في استراتيجية وطنية للانفتاح على العالم الناطق بالإسبانية، ولا هي محترمة بما يكفي داخل منظومة التعليم والإعلام.

في المقابل، جرى إغراق الفضاء العمومي في صراعات عقيمة بين “اللوبي الفرنكفوني” و”أنصار” الإنجليزية، بينما تُركت الإسبانية تذبل في الشمال والجنوب وتغيب عن أجيال كاملة، في الوقت الذي يتزايد فيه طلب العالم الإسباني على موطئ قدم داخل إفريقيا، ويتزايد فيه اهتمام المغاربة أنفسهم بتعلم هذه اللغة.

منذ بداية الثمانينيات، لم تبقَ إسبانيا على حالها، بل انطلقت في مسار انتقال ديمقراطي وصعود اقتصادي جعلها، في ظرف جيل واحد، قوة متوسطة محترَمة في الاتحاد الأوروبي. وكانت تلك اللحظة فرصة مثالية لبناء محور استراتيجي: جارٌ أوروبي ديمقراطي في طور الصعود، وبلدٌ جنوبي يبحث عن شريك يضمن دخولا سلسا إلى سوق أوروبية وعالم هيسباني واسع.

لكن ملف الصحراء، وإرث الانسحاب الإسباني الناقص من الإقليم، وطقوس الحرب الباردة، ثم سوء التدبير الدبلوماسي من الطرفين، حوّل هذه الفرصة إلى مصدر توتر دائم، بل وإلى لحظات قطيعة حادة كما حدث سنة 2021 مع قضية استقبال زعيم البوليساريو، وقبلها أزمة جزيرة ليلى…

لكن ما حصل منذ ربيع 2022 مؤشر على أن صفحة كاملة تتهيأ للإغلاق. رئيس حكومة إسباني يبعث برسالة إلى الملك محمد السادس، يعلن فيها دعم مقترح الحكم الذاتي المغربي باعتباره الحل الأكثر جدية ومصداقية، فتُنهي تلك الرسالة عمليا حالة “الرمادية” التي ظلت مدريد تختبئ وراءها عقودا.

بعدها، ستُستأنف اللقاءات رفيعة المستوى، ويُعاد تشغيل قنوات التعاون الأمني والاقتصادي، وتنعقد قمة في الرباط سنة 2023، ثم تليها اليوم قمة أخرى، مرتقبة غدا الخميس 4 دجنبر 2025 في مدريد، في سياق يصفه الطرفان بأنه “أفضل حالاته منذ سنوات”.

الطاقة مثال صارخ على متانة ما يمكن أن يبنى. الكابل الكهربائي تحت مضيق جبل طارق، الذي كان يُنظر إليه لعقود كخط لنقل الكهرباء الأوروبية إلى الجنوب، تحوّل في ظرف سنوات قليلة إلى قناة طوارئ عكسية. والمغرب يصدّر الكهرباء المتجددة شمالا عند الحاجة، كما حدث في الانقطاع الكبير الذي أصاب الشبكة الإسبانية.

هذه الصورة الرمزية لوزير إسباني يشكر المغرب علنا لأنه ساهم في إنقاذ شبكة كهربائية أوروبية، تعني ببساطة أننا لم نعد نتحدث عن “مستفيد” و”مانح”، بل عن اعتمادية متبادلة يمكن أن تمتد غدا إلى الهيدروجين الأخضر والربط الغازي والممرات البحرية واللوجستية.

ويحمل المستقبل عنصرا رمزيا إضافيا اسمه مونديال 2030. التنظيم المشترك بين المغرب وإسبانيا والبرتغال ليس حدثا رياضيا فقط، بل ورشُ بنية تحتية وصورة دولية وتعاون أمني وثقافي.

في لقاءات جمعتني مؤخرا بدبلوماسيين وخبراء إسبان معنيين بالشأن المغربي، كان ما يُقال “خارج التسجيل” أكثر دلالة مما يُقال أمام الكاميرات. هناك احترام واضح لدور المغرب في استقرار غرب المتوسط، وإعجاب بامتلاكه لرؤية في مجال الطاقات المتجددة والهجرة، وإقرار بأن الاستقرار الذي يوفّره التدبير الملكي للملفات الاستراتيجية يجعل الرباط شريكا يمكن التعويل عليه.

هذا الشعور، إذا أُحسن استثماره، يمكن أن يتحوّل إلى رافعة لتصحيح مسار كامل، بشرط أن نخرج نحن أيضا من عقدة “التلميذ الفرنكفوني”” النجيب، ونقبل أن نعيد ترتيب خرائطنا اللغوية والثقافية والاقتصادية على ضوء الجغرافيا لا على ضوء الحنين الاستعماري.

تدارك التأخر لا يعني قطعا مع فرنسا أو الولايات المتحدة؛ فهذا غير واقعي وغير مطلوب. المطلوب هو كسر احتكار غير معلَن، وبناء توازن جديد يجعل من المحور المغربي–الإسباني أحد أعمدة السياسة الخارجية والاقتصادية والثقافية للمغرب.

في النهاية، نحن لسنا مطالبين بأن نغيّر الجغرافيا، فهي أكرم منا جميعا، بل علينا أن نغيّر طريقة قراءتها فقط.

ما بين طنجة وطريفة ليس مجرد مضيق بحري، بل اختبار سياسي وثقافي واقتصادي لمدى استعدادنا للخروج من ظلّ باريس وحرارة واشنطن، وبناء شراكة ندّية مع مدريد تعترف بما في الضفتين من قوة وفرص.