إحياء المولد النبوي.. وسيلة مغاربة سبتة لمقاومة المدّ المسيحي
باستثناء بعض الدول الخليجية التي لا تحتفل بذكرى المولد النبوي، تشهد جل أنحاء العالم الإسلامي بداية شهر ربيع الأول من كل سنة هجرية، مظاهر احتفالية بذكرى المولد النبوي، تتنوع أشكالها بتنوّع العادات والتقاليد المحلية.
واكتسبت هذه الذكرى الدينية أهمية مضاعفة في السنوات الأخيرة، مع اشتداد الهجمات المعادية للإسلام والمسلمين عبر العالم، وظهور أنماط تعبيرية جديدة تستهدف شخص الرسول محمد (ص)، من قبيل بعد التعبيرات الفنية التي تتجاهل الخصوصيات الثقافية والمعتقدات الخاصة بالشعوب الإسلامية.
هكذا أصبحت المظاهر الاحتفالية تعمّ جلّ أقطار العالم، سواء منها المنطق الإسلامية أو تلك التي تحتضن جاليات إسلامية كبيرة. وتمتدّ هذه الاحتفالات الكبرى من الرباط غربا إلى غاية جاكرتا شرقا، بمظاهر متنوعة تخترق كبريات العواصم العربية والإسلامية.
مغاربة سبتة سباقون
يعتبر المغاربة من بين أكثر شعوب العالم الإسلامي حرصا على إحياء ذكرى المولد النبوي، لدرجة باتت معها هذه المناسبة ثالث عطلة دينية تعطّل فيها الإدارات العمومية والخاصة ليومين متتالين.
ويعود أصل احتفال المغاربة بهذه الذكرى، إلى القرن السادس الهجري، حين قرّرت إمارة “بني العزفي” التي كانت تحكم مدينة سبتة في أقصى شمال المغرب، إحياء هذه الذكرى الدينية في محاولة لحماية الهوية الإسلامية المدينة، وتحصينها ضد المدّ المسيحي.
ورغم أن الفاطميين يعتبرون سبّاقين إلى الاحتفال بذكري مولد الرسول محمد (ص)، إلا أن هذه المناسبة الدينية أخذت بعدا حضاريا وسياسيا جديدا في سبتة، كما يوضّح المؤرخ المغربي الراحل عبد الهادي التازي، في مقالة له نشرها في مجلة “دعوة الحقّ عام 1989.
فيما يضيف الأستاذ الجامعي محمد شقير، في دراسة له، تفسيرا آخر لخطوة اعتماد ذكرى المولد النبوي كيوم للاحتفال، حين أشار إلى أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن فقط لتعزيز الهوية الإسلامية، بل كان ردًا ثقافيًا على الاحتفالات المسيحية واليهودية التي بدأت بالظهور في المحيط المغربي، لاسيما في مدينة سبتة، التي كانت ملتقى للثقافات.
وقاية من الاختراق الثقافي
رأى بنو العزفي في هذا الاحتفال وسيلة لتمييز المجتمع المغربي الإسلامي عن تلك الثقافات المخالفة، في وقت كان يُخشى فيه من ذوبان الهوية الإسلامية بفعل الخليط الذي ضمّته أسوار المدينة التجارية وقتها.
وبعد أقل من قرن، انتقلت هذه العادة من مدينة سبتة إلى مركز الدولة المغربية التي كانت تحت حكم بني مرين، حيث صدر مرسوم ملكي في سنة 691 هجرية (1292 ميلادية) يقضي بجعل الاحتفال بالمولد النبوي حدثًا رسميًا في المغرب، وذلك عقب عودة السلطان المغربي من غزوة في الأندلس.
وكان هذا المرسوم بمثابة خطوة لترسيخ الوحدة الوطنية عبر الاحتفال بمناسبة دينية جامعة.
ويشير الراحل عبد الهادي التازي إلى أن الدوافع وراء إنشاء هذا الاحتفال في المغرب لم تكن فقط تعقيبًا على الشيعة الذين اعتادوا الاحتفال بمولد الإمام علي وابنه الحسين، بل كانت ردًا على احتفالات المسيحيين بعيد الميلاد في الأندلس.
نتجت هذه المخاوف من التأثير المسيحي على المسلمين في الأندلس، حين بدأ بعض المسلمين في الاحتفال بعيد السيد المسيح، ما دفع المغاربة إلى رفع شأن المولد النبوي تدريجيا لدرجة جعله عيدًا وطنيًا يُعبر عن الانتماء الإسلامي.
ويضيف محمد شقير إلى هذا السياق سببًا آخر يتمثل في افتقاد بني مرين لشرعية قوية مقارنةً بسابقيهم المرابطين والموحدين، وهو ما دفعهم لاعتماد احتفالات دينية لترسيخ حكمهم.
كما برز حينها نفوذ الشرفاء الأدارسة في فاس وتزايدت القوى السياسية المنافسة التي تعتمد على “الشرف” كمصدر للشرعية، مثل الزوايا والبيوتات السعدية والعلوية التي ستحكم المغرب فيما بعد.
من المغرب إلى الجزائر وتونس
انتقل الاحتفال بالمولد النبوي من المغرب إلى الجزائر وتونس، حيث حاولت الدولة الحفصية في تونس مجاراة المغرب عبر إقرار احتفالات مشابهة بالمولد النبوي. وفي عهد السلطان الحفصي أبو يحيى المتوكل، كان الهدف من هذه الاحتفالات مواجهة التهديد المريني وكسب تأييد العامة والخاصة، خاصة مع تصاعد نفوذ الدولة المرينية في المنطقة.
تم التركيز في البداية على تعليم الأطفال في المدارس والكتاتيب القرآنية أهمية ذكرى المولد، عبر تنظيم احتفالات تتخللها طقوس مثل إضاءة الشموع وترديد الأمداح النبوية.
كان الأطفال يُعطون شموعًا كبيرة مزينة بالألوان الهندسية، فيما يحضر المنشدون لترديد الأناشيد الدينية طوال الليل، ليصبح الاحتفال رمزيًا وشعبيًا يربط الأجيال الصاعدة بالقيم الإسلامية الأصيلة.
احتفالات توارثتها الأجيال تدريجيا، لتتخذ اليوم طابعا رسميا، حيث يُقام احتفال رسمي في المغرب يترأسه الملك بصفته أمير المؤمنين، ويُقام حفل ديني يحضره مسؤولو الدولة المغربية وممثلو الدول الإسلامية المعتمدين لديها.
وتشهد هذه المناسبة أيضًا إصدار الملك عفوه عن عدد من السجناء، فيما تقام احتفالات مماثلة في كافة أنحاء البلاد، خصوصًا في مقرات الزوايا الصوفية التي تردد الأمداح وترفع أكفّ الدعاء في تلك الليلة الاستثنائية.
مؤيّدون ومعارضون
رغم التقدير الكبير الذي يحظى به الرسول محمد (ص) بين جميع المسلمين، إلا أن الاحتفال بذكرى ميلاده ينطوي على خلاف بين مؤيدين ومعارضين.
ويدفع الرافضون لفكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي، حجة غياب أي دليل شرعي على إجازة هذا الاحتفال. ويشدّد هؤلاء علي مخالفة هذا الاحتفال لما اعتاده المسلمون طيلة عهد الرسول (ص) ومن تبعه من الخلفاء الراشدين.
ويذهب المعارضون لهذا الاحتفال إلى اعتباره بدعة مستحدثة، ويحيطونه بشبهة التأسي بالنصارى الذين عُرف عنهم تاريخيا الاحتفال بما يعتقدونه ذكرى مولد المسيح عليه السلام. كما يدفع المعارضون بحجة بعض المظاهر الاحتفالية التي يقولون إنها تتضمن ممارسات مخالفة للشريعة، مثل المبالغة في مدح الرسول (ص) واستدعاء بعض الطقوس التي يقولون إنها وثنية الأصل…
بالمقابل، يدافع المؤيدون للاحتفال بذكرى المولد النبوي عن موقفهم بالقول إن هذه العادة وإن كانت جديدة، إلا أنها “بدعة” حسنة تعتبر فرصة باستحضار شخصية الرسول (ص) وسننه وأحاديثه، علاوة على ما يتخلل هذه الاحتفالات من عمل خيري وإحسان وإقبال على الخير.