أي تأثير لسقوط نظام الأسد في سوريا على النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط؟
تستند استنتاجات هذا المقال إلى افتراض أن الوضع في سوريا يتجه نحو الاستقرار. رغم التصريحات المطمئنة من معظم الفاعلين الدوليين والإقليميين المعنيين بالشأن السوري، إلا أن هناك مخاوف ينبغي أخذها في الاعتبار عند استشراف مستقبل سوريا. فبعض القوى الدولية والإقليمية قد لا تنظر بعين الارتياح إلى احتمال أن يؤدي هذا التحول في سوريا إلى تجربة حكم يشارك فيها الإسلاميون بشكل كبير، مما قد يشكل عامل جذب واستلهام لدول أخرى.
عند النظر إلى الشرق الأوسط بمعناه الواسع باعتباره نظاما إقليميا، سنجد أنه رغم تنوع دوله إلى حد الفسيفساء من حيث التاريخ والحجم والقدرات، تبرز ثلاث قوى إقليمية لها مواصفات القوة والتأثير، خاصة القوة العسكرية، وهي: تركيا وإيران وإسرائيل. وهذا يمنح النظام الإقليمي صفة “ثلاثي القطبية”.
لذلك، فإن تقييم مدى تأثير سقوط نظام البعث في سوريا على النظام الإقليمي في الشرق الأوسط يعتمد على حجم تأثيره السلبي أو الإيجابي على مكانة هذه القوى الإقليمية الثلاث في بنية النظام الإقليمي.
تركيا: الرابح الأكبر
تعتبر تركيا الرابح الأكبر من هذا التحول في سوريا، وقد كانت قبل ذلك الدولة الأكثر تضررا من الأزمة السورية منذ عام 2011. فقد تحملت أعباء اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة، واستضافت أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون لاجئ سوري. كما واجهت تحديات أمنية وجيوسياسية كبيرة، خاصة من قبل المسلحين الأكراد، وعلى رأسهم قوات سوريا الديمقراطية التي دعمتها الولايات المتحدة بالتدريب والتجهيز لمواجهة تنظيم داعش. ومع ذلك، اضطرت تركيا إلى الدخول في لعبة طويلة الأمد، لتتمكن في النهاية من تحويل هذه الفوضى الإقليمية لصالحها. لذلك يمكن القول الآن أن تركيا هي الرابح الأكبر إقليميا من سقوط نظام الأسد، إذ تبدو وكأنها الدولة الوحيدة التي اتبعت استراتيجية رابحة تجاه سوريا.
ستتمتع تركيا بنفوذ اقتصادي وسياسي وعسكري غير مسبوق في سوريا، مدعومة بقبول من شريحة كبيرة من الشعب السوري. هذا النفوذ لن يمنحها الأولوية فقط في عملية إعادة الاستقرار وتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، بل سيعزز أيضا مكانتها في النظام الإقليمي وفي علاقاتها مع الأطراف الدولية الأخرى المعنية بالملف السوري والمنطقة بشكل عام.
إيران: الخاسر الأكبر
تعد إيران الخاسر الأكبر جيوسياسيا في المنطقة بسقوط نظام الأسد بسوريا. هذا الحدث يمثل ضربة قوية لإستراتيجية إيران ومكانتها في المنطقة. كانت سوريا تشكل عمقا استراتيجيا وإقليما حيويا لإيران يمتد من إيران إلى لبنان مرورا عبر العراق وسوريا.
وعندما نتحدث عن إيران، فلا بد من الإشارة أيضا إلى حزب الله اللبناني، ذلك أن سقوط نظام الأسد بشكل مفاجئ يضع التحالف الجيوستراتيجي بين إيران وحزب الله على المحك، مما يهدد بإضعاف ما يعرف بمحور المقاومة. فقد لعب نظام الأسد دورا محوريا كجسر يربط إيران بحزب الله، مقدما دعما سياسيا واستراتيجيا، بالإضافة إلى تسهيل نقل الأسلحة الإيرانية. وقد تجلت أهمية هذا المحور في الحيلولة دون سقوط نظام الأسد في بداية الانتفاضة من خلال التدخل العسكري العلني لإيران وحزب الله في سوريا، ثم الدعم المكثف لروسيا بالطيران الحربي لاحقا.
هذا التحول الكبير في سوريا سيدفع إيران إلى إعادة تقييم استراتيجيتها الأمنية والعمل على تعزيز قدراتها الذاتية لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة دون الاعتماد كثيرا على حلفائها الإقليميين. ومن المرجح أن تركز إيران الآن على تطوير نظام دفاع جوي قوي، وإبرام صفقات للحصول على طائرات حربية متقدمة من روسيا والصين، بالإضافة إلى البحث بجدية عن مسارات تسرع برنامجها النووي.
إيران في مفترق الطرق الآن بين الاعتماد على الذات لضمان أمنها الوطني، ويعد الحصول على السلاح النووي قمة هذا الخيار، أو تقديم تنازلات أكثر للغرب للتوصل إلى اتفاق جديد بشأن برنامجها النووي وإعادة بناء علاقات جديدة مع محيطها الإقليمي. ويبدو أن السيناريو الأول هو الأرجح خاصة في ظل الولاية الثانية لدونالد ترامب في البيت الأبيض محاطا بجوقة من مساعديه المتشددين تجاه إيران.
إسرائيل أمام معضلة جديدة
إسرائيل تواجه معضلة معقدة، إذ إن الأسد رغم اعتباره عدوا لها، لم يشكل تهديدا مباشرا على أمنها، وامتنع دائما عن الرد على الغارات الإسرائيلية المتكررة داخل الأراضي السورية، لكن بالمقابل كان يتيح لإيران استغلال الأراضي السورية كمنصة لتوريد الأسلحة إلى حزب الله في لبنان.
لقد أثبتت حرب إسرائيل على غزة، وكذلك مواجهتها كل من حزب الله وإيران، أن إسرائيل لا تستطيع أن تخوض معركة كبيرة ولمدة طويلة دون دعم شامل على كل المستويات من قبل أمريكا. إن أبرز ما يمكن استخلاصه مما حدث في الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر 2023 أن إسرائيل، بدون دعم أمريكا، تظل ضعيفة في مواجهة أعدائها، وأن ترساناتها النووية لا تفيدها في هذه الحروب.
لكن عموما من الصعب تقييم في هذا الوقت مدى تأثير سقوط نطام الأسد على إسرائيل حتى نعرف كيف سيتعامل النظام القادم في دمشق مع مرتفعات الجولان وباقي المناطق السورية المحتلة من قبل إسرائيل، وحجم الدعم الذي سيقدمه للقضية الفلسطنية، وطبيعة علاقته مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية، و وكيف سينسج علاقاته مع محيطيه الإقليمي الذي يضم فاعلين لهم مصالح ومواقف متضاربة، وهل ستتحول سوريا إلى نسخة ”مهذبة“ (light) للنظام الحالي في أفغانستان الذي يبدو أنه مستنكف عل نفسه، ولا يتدخل في شؤون خارج إقليمه… لذلك فإن إسرائيل في حالة ترقب.
وإذا استمرت إسرائيل في غطرستها على كل الجبهات، فإنها ستؤدي حتما إما إلى إعادة بناء محور الممناعة بانضمام فاعلين جدد، أو إلى تشكيل تحالف جديد مقام لسياسات إسرائيل في المنطقة.
هذه هي الصورة العامة عن المشهد الإقليمي للشرق الأوسط من حيث الفاعلون الإقليميون الأساسيون، لكن لن تكتمل الصورة دون استشراف مكانة فاعلين آخرين، لاسيما دول الخليج والفاعلين الدولين الذين يؤثرن في هذا المشهد العام.
دول الخليج: لاعب ثانوي
تقليديا كانت دول الخليج في عمومها تميل إلى استقرار الأنظمة القائمة في جوارها الإقليمي، باعتبار أن أي تغيير قد يشكل تهديدا لها، وليس فرصة. لكن خلال العقدين الأخيرين، وخاصة بعد انتفاضات الربيع العربي، اختلفت استراتيجيات هذه الدول، وبدا بعضها أكثر ميلا لدعم بعض الحركات الاجتماعية والتحولات السياسية في بعض الدول، وبعضها ساند ما يسمى الثورات المضادة التي جاءت ضد مسار انتفاضات الربيع العربي. يتجلى هذا التباين بوضوح في مواقفها تجاه الوضع الحالي في سوريا، كما كان أيضا تجاه نظام بشار الأسد حتى اللحظة الأخيرة. ففي حين سعت بعض الدول، وخاصة السعودية والإمارات، جاهدة لإعادة دمج النظام في المنظومة الإقليمية وإصلاح علاقاته مع الغرب، تمسكت دول أخرى، مثل قطر والكويت، بموقف حازمة برفض الاعتراف به. يبدو أن قطر التي ظلت تقدم مساعدات لبعض قوى المعرضة السورية لنظام الأسد حتى سقوطه ستكون صاحبة الحظوة الأكبر من بين دول الخليج لدى الحكام الجدد في سوريا.
أمريكا: مكاسب نسبية وتحديات مستقبلية
يظهر للوهلة الأولى أن انهيار نظام الأسد في مصلحة أمريكا سواء لكبح النفوذ الإيراني في المنطقة أو لاستراتيجيتها في مكافحة الإرهاب. فقد سارعت إدارة جون بايدن المنتهية ولايتها بعد أيام الاتصال بالحكام الجدد في دمشق، وهي في تنسيق مستمر مع تركيا، كما أن تصريحات الرئيس القادم دونالد ترامب، توحي بالتفاؤل والاستعداد للتعاون مع الحكومة الجديدة في سوريا.
الولايات المتحدة حاضرة في المشهد السوري الجديد بشكل غير مباشر من خلال التنسيق مع تركيا، التي تعد الفاعل الإقليمي الأقوى حاليا على الساحة السورية، إضافة إلى وجودها الميداني سواء عبر قواتها المنتشرة داخل سوريا أو من خلال دعمها لقوات سوريا الديمقراطية الكردية.
يمكن القول إن أمريكا هي القوة الدولية خارج المنطقة الأكثر استفادة حتى الآن من سقوط نظام الأسد، مقارنة بباقي القوى الدولية، وخاصة روسيا. ومع ذلك، تبقى هذه الاستفادة نسبية، في انتظار كيفية تعامل الرئيس دونالد ترامب مع حلفائه الأكراد، وما إذا كان سيصل إلى ترتيبات مع تركيا بشأن هذا الملف.
روسيا: خسارة مؤكدة وعودة محتملة
يعد سقوط نظام الأسد بلا شك خسارة لاستثمارات روسيا الكبيرة في نظام الأسد واحتمال فقدانها لموطئ قدم في البحر الأبيض المتوسط، وهذا سيؤدي دون شك إلى انكماش نفوذ روسيا في المنطقة. خسارة روسيا لنفوذها وحضورها في سوريا يؤكد مرة أخرى أنها ليست قوة عظمى، ولا تستطيع منافسة أمريكا على الأقل في مناطق خارج المحيط الإقليمي القريب لروسيا. لكن هذا التحول في سوريا لا يعني بالضرورة خسارة كاملة لروسيا، لأن النظام القادم لا يعني بالضرورة أن يكون معاديا لروسيا، بل من مصلحته أن يسعى ليحقق نوعا من التوازن في علاقاته الخارجية، وبالتالي ليس هناك جزم بأن تكون سوريا في المستقبل موالية مطلقا للغرب.
الصين لا تزال بعيدة عن التنافس على الريادة العالمية
أظهرت الأحداث الأخيرة في فلسطين ولبنان وسوريا أن الصين خلافا لتوقعات بعض الباحثين، لا تزال بعيدة عن الطموح، أو ربما القدرة، على التنافس على الريادة العالمية. فرغم سعي الصين لتعظيم مصالحها الاقتصادية، إلا أنها تفتقر إلى طموحات جيوسياسية خارج محيطها الإقليمي على الأقل في الوقت الحالي. كما أنها لا تزال محاطة بعوائق جيوسياسية في حديقتها الخلفية تمنعها من التنافس على النفوذ السياسي مع أمريكا سواء في الشرق الأوسط أو في مناطق أخرى.
خاتمة
يعكس هذا التطور في المشهد العام للنظام الإقليمي في الشرق الأوسط ديناميكيات معقدة ستستمر في تشكيل مستقبله. ومع ذلك، لا يغير ذلك جوهر طبيعة النظام الإقليمي في المنطقة، حيث لا يزال الأقطاب الثلاثة الأساسيون يحافظون على مواقعهم، رغم تعزيز تركيا لمكانتها والتراجع النسبي لإيران. ويبدو من خلال اتجاه الأحداث أن النظام الإقليمي في الشرق الأوسط سيظل ثلاثي الأقطاب، رغم الاستفادة الجيوسياسية الكبيرة لتركيا. ولكن لا تمتلك أي من هذه القوى الثلاث القدرات الكافية للهيمنة على المنطقة أو فرض سيطرتها الكاملة. ويبدو أن استمرار تدخلات القوى الدولية يشكل أحد العوامل الرئيسية التي تحول دون بروز قوة إقليمية قادرة على قيادة المنطقة وريادتها.
*سعيد الصديقي
أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس