أنتونين بانينكا.. ضربة إبداع للتاريخ

ص
ص
في كأس العالم بقطر سنة 2022، عندما واجه المنتخب الوطني المغربي نظيره الإسباني في دور ثمن النهاية، وانتهت المباراة الماراطونية التي امتدت إلى الأشواط الإضافية بصفر لمثله، ولجأ المنتخبان إلى ضربات الترجيح، كان على أشرف حكيمي أن ينهي كل شيء ويحسم تأهل المغرب إلى دور الربع بعد أن صد الحارس ياسين بونو كل ضربات الإسبان.
وفي الوقت الذي انتظر فيه الجميع تسديدة قوية مركزة، رفع حكيمي الكرة برفق في وسط مرمى أوناي سيمون بعدما ارتمى الأخير إلى أقصى الجهة اليمنى.. كانت لمسة “بانينكا” فنية لا يقوم بها وسط تلك الأجواء الضاغطة العصيبة، إلا كبار نجوم الكرة أصحاب الأعصاب الفولاذية والشخصية القوية.
تاريخ كرة القدم العالمية منذ سبعينيات القرن الماضي مليء بضربات جزاء من هذا الصنف، والجميع يتداول إسمها نسبة إلى مبتكرها الأسطورة التشيكوسلوفاكي أنتونين بانينكا، ذلك البطل الذي أدخل ضربته الفريدة ومعها بلاده إلى ذاكرة جماهير الكرة في مختلف ربوع العالم.
قديس تشيكوسلوفاكيا
في الثاني من دجنبر من عام 1948 ولد أنتونين جاكوب بانينكا بمقاطعة مورافيا في الجزء التشيكي من البلاد الفدرالية، وكان لاعب خط وسط مهاجم معروف بجودة تمريراته وضرباته الحرة، إنضم بانينكا إلى نادي بوهيميانز براغ في أول محطة من مسيرته الكروية في عام 1967.
وتم اختياره كأفضل لاعب كرة قدم تشيكوسلوفاكي في عام 1980، وفي عام 1981، غادر بانينكا نادي بوهيميانز إلى نادي رابيد فيينا النمساوي، حيث فاز بلقبين في الدوري الألماني وكأس النمسا.
وفي عام 1985، وصل رابيد إلى نهائي كأس أبطال الكؤوس الأوروبية، ولعبه بانينكا كبديل، لكن فريقه خسر ب3-1 أمام إيفرتون.
وفي وقت لاحق من ذلك العام، انتقل بانينكا إلى نادي سانت بولتن ولعب موسمين آخرين قبل الانتقال إلى الدرجات السفلى في النمسا، ولعب موسمين 1987-1989 ضمن نادي سلوفان فيينا، وثلاث مواسم 1989-1992 لصالح نادي هوهيناو، واعتزل اللعب في نادي كلاينفيزندورف، بعدما خاض معه موسمين1993-1995.
كما لعب في صفوف منتخب تشيكوسلوفاكيا من سنة 1973 إلى سنة 1982 وخاض معه 59 مباراة دولية سجل فيها 17 هدفا.
ضربة جزاء للتاريخ
في تاريخ كرة القدم، هناك لحظات تعيش في الذاكرة الجماعية لعشاق اللعبة، وتصبح جزءاً من التراث الرياضي، وواحدة من هذه اللحظات هي هدف أنتونين بانينكا الشهير في بطولة أمم أوروبا عام 1976.
لم يكن هذا الهدف مجرد نقطة في المباراة، بل كان لحظة إبداع وجرأة غير مسبوقة، خلدت اسم بانينكا في سجلات التاريخ الرياضي.
بانينكا لم يكن معروفاً بالكثير من الأهداف الرائعة، لكنه صنع لنفسه مكاناً في قلوب مشجعي كرة القدم بفضل جرأته وذكائه.
بطولة أمم أوروبا 1976 كانت تُقام بنظام خروج المغلوب، وكانت تشيكوسلوفاكيا قد وصلت إلى النهائي لمواجهة المنتخب الألماني الغربي القوي. في 20 يونيو 1976، احتشدت الجماهير في ملعب “ملعب النجم الأحمر” في بلغراد لمتابعة النهائي بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الغربية.
المباراة كانت متكافئة وانتهت بالتعادل 2-2 بعد الوقت الإضافي، مما أدى إلى اللجوء إلى ضربات الجزاء لتحديد الفائز. تقدم اللاعبون لتنفيذ ركلات الجزاء وسط توتر كبير، بعد تنفيذ العديد من الركلات، جاء دور أنتونين بانينكا لتنفيذ الركلة الحاسمة.
بدلاً من اختيار التسديد القوي أو الزاوية الصعبة، قرر بانينكا أن يفعل شيئاً لم يتوقعه أحد، قام بتسديد الكرة بلطف وبطء في وسط المرمى، بينما اندفع الحارس الألماني سيب ماير إلى جانب آخر. كانت تسديدة بانينكا مغامرة كبيرة، حيث تطلبت ثقة بالنفس وجرأة لا مثيل لها، كان بإمكان الحارس بسهولة التصدي للكرة لو بقي في مكانه، لكن بانينكا قرأ الموقف ببراعة وأدرك أن الحارس سيختار الزاوية.
هذه اللقطة أصبحت تُعرف باسم “ركلة بانينكا”، وأصبحت رمزاً للإبداع في كرة القدم.
هدف بانينكا لم يمنح تشيكوسلوفاكيا لقب البطولة فحسب، بل أصبح رمزاً للجرأة والإبداع في كرة القدم، الكثير من اللاعبين حاولوا تقليد هذه الركلة في السنوات اللاحقة، لكنها ظلت مرتبطة باسم بانينكا، الذي ألهم أجيالاً من اللاعبين.
رمز إبداع كروي
يعتبر بانينكا أن ركلة الجزاء الشهيرة تلك أنقذته مما سماه بـ “العمل الممل” لمدة 40 عاماً بعيداً عن كرة القدم، مؤكداً بأنه لن يستطيع نسيان تلك اللحظة حتى آخر يوم في حياته، بعدما أذهل الجميع بتنفيذه ركلة الترجيح بطريقة اخترعها.
ونقلت صحيفة “ذا إندبندنت” البريطانية عن بانينكا قوله: “لقد سألني الكثير من الناس عما كان سيحدث لو أنني لم أنجح في تسجيل ركلة الجزاء بهذه الطريقة بالمباراة النهائية. أحب أن أخبرهم بأنني كنت سأصبح الآن عاملاً في أحد المصانع ويتمتع بخبرة 40 عاماً”، مؤكداً أنه كان سيصاب بالملل من روتين العمل لو لم يسجل ذلك الهدف، لذلك هو فخور للغاية بما قام به.
وأضاف: “لقد مارست تنفيذ تلك الضربة لمدة عامين قبل يورو 1976، لأنني أدركت أن جميع حراس المرمى كانوا يقفزون دائماً إلى جانب واحد، لذلك سيكون من الجيد إطلاقها بالوسط، بعدما كنت أقوم عقب انتهاء كل حصة تدريبية بمراهنة حارسنا زدينيك جروشكا على ركلات الجزاء، وخسرت الكثير من المال والشوكولاته أمامه، قبل أن أنفذها بنجاح أمام ألمانيا الغربية في المباراة النهائية”.
براءة الإبتكار
أنتونين بانينكا لم يكن لاعب كرة مثل بقية اللاعبين، كان فيه مس من العبقرية، وكانت شخصيته الهادئة التي تروم الإبتعاد عن الصخب ووسائل الإعلام، يظهر منها نظرة فلسفية عميقة إلى الرياضة بصفة عامة.
يقول بانينكا في حوار مع صحيفة “آس” الإسبانية: “يجب أن نعلم جميعاً أن ركلات الترجيح هى لحظات عامرة بالتوتر العصبى، و أنها أقرب ما تكون لمنازلة نفسية بين اللاعب و حارس المرمى. وأهم ما يجب التحلى به لحظة تسديد ضربتك هى الثقة الكاملة فى نفسك وفي قدرتك على إيداع الكرة بمرمى المنافس، ثم توافر الحرية الكاملة لك لتسديد الكرة بالطريقة التى تفضلها. الشعور بالإرتياح الكامل هو مفتاح ركلة الجزاء الناجحة”.
ويشرح الأسطورة التشيكوسلوفاكي شعوره وهو يرى نجوما كبارا ينفذون ضربات الجزاء بالطريقة البديعة التي ابتكرها: ” أشعر بسعادة غامرة عندما أعلم بأن العديد من اللاعبين الكبار فى العالم الآن يسددون ركلات الترجيح بنفس الطريقة، خاصة أنها طريقة رائعة أيضاً لتسجيل الأهداف و إيداعها الشباك”.