أكتوبر وردي مجيد
في ساعة متأخرة من هذه الليلة (ليلة فاتح إلى ثاني أكتوبر 2024)، وبينما أحاول الاطلاع على أولى التقارير والتعليقات التي تتناول الضربة الصاروخية الإيرانية ضد إسرائيل التي جرت عشية أمس، خاصة في الصحف الأمريكية، توصلت من صديق صحافي في إحدى كبرى وكالات الأنباء العالمية، بنص بيان صادر عن الخارجية الأمريكية، بعد اللقاء الذي جمع الوزير أنتوني بلينكن بنظيره المغربي ناصر بوريطة.
لم تخرجني الرسالة من الموضوع الذي كنت مستغرقا في تقليبه، أي الفصل الجديد من الصراع الدائر في الشرق الأوسط، بل جعلني البيان أغوص أكثر في الموضوع، لأن من المستحيل أن يكون موقفنا الرسمي وسلوكنا تجاه ما يجري في فلسطين ومحيطها من عربدة إسرائيلية، منفصلا كليا عن مصالحنا الوطنية العليا التي لا شك أنها كانت موضوع محادثات بوريطة مع بلينكن، في يوم استثنائي كانت فيه الإدارة الأمريكية تعمل على تلقف الصواريخ الإيرانية في سماء المنطقة دفاعا عن إسرائيل.
لا يمكننا أن نقع في الفخ، ونقوم ضدا في الموقف الانتهازي والمدلّس الذي يحاول أن يوهم المغاربة منذ فترة أن عليهم الاختيار بين مساندة الفلسطينيين وبسط السيادة الكاملة على صحرائهم، بالفصل المتعسّف بين الملفّين.
لموقفنا من القضية الفلسطينية وسلوكنا تجاه إسرائيل، انعكاس حتمي وبديهي على مسار وحدتنا الترابية، ليس لكون منطق ما يفرض هذا الارتباط، بل وبكل بساطة لأن الماسك بخيوط الملفين واحد: الأمريكي.
على الذين يعتبرون أن قضيتين عادلتين لا تتعارضان، أن يقوموا بدورهم لمساعدة المتابع الحريص على ذكائه من المشي فوق حقل الألغام هذا دون أن يتعرض للخطر. وعلينا أن نقرّ أولا بأن الدولة لا تملك رفاهية الفصل بين الملفين والإبقاء على موقفها التاريخي والطبيعي الداعم للقضية الفلسطينية، والحصول من الماسكين بزمام المنتظم الدولي ومؤسساته على اعتراف قانوني صريح ونهائي بمغربية الصحراء.
من هنا فقط يمكن الوقوف في وجه من يروّجون لأطروحة الانبطاح و”تطياح السروال” أمام إسرائيل، كشرط للحفاظ على الوحدة الترابية والحصول على إقرار دولي بمغربية الصحراء. أما الصعود إلى قمة جبل الأطروحة المضادة ومطالبة الدولة بهذا الفصل، غير الممكن ولا الواقعي، فيخدم في النهاية موقف الانبطاحيين، لأنه لا يقدّم أجوبة مقنعة.
بالعودة إلى المهرجان الصاروخي الذي أهدته إيران مساء أمس لكل المقهورين، فعليا على الأرض أو معنويا وعن بعد، من الإجرام الإسرائيلي، أثارني شخصيا حجم الفرحة التي سرت في أوصال المجتمع، افتراضيا وواقعيا.
هناك حالة اكتئاب وهمّ وغمّ استبدّت بنا تدريجيا، وبلغت ذروتها بعد اغتيال قيادة تنظيم حزب الله وعلى رسهم أمينه العام حسن نصر الله. نعم هناك محاولة شبه جماعية لإنكار ذلك، لكنني شخصيا لمست هذه الحالة الكئيبة حتى عند بعض الأشخاص الذين يتبنون نمط حياة “تكنوقراطي” وخال من كل همّ سياسي أو إنساني.
ليلة أمس فرح الجميع، وهو فرح دالّ ومثقل بالمعاني. وأولى دلالاته تأكيد تعاطف قطاعات واسعة من المغاربة مع القضية الفلسطينية، وتضامنهم مع الشعوب العربية الأخرى التي يلحقها الأذى المباشر لإسرائيل، من لبنان إلى مصر مرورا بسوريا والأردن.
فرح يترجم إحساسا بكون ضربات إيران ضد إسرائيل تصفية لحسابات تاريخية وسياسية مع عدو يعتبرونه احتلالًا، وهو ما يولد شعورًا بالفرح.
كما تدلّ موجة الابتهاج هذه، أنه ورغم توقيع المغرب على اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، إلا أن هناك شريحة كبيرة من الشعب المغربي لا تزال ترفض هذه الاتفاقيات، وتعتبرها تنازلًا سياسيًا مؤلما وغير مبرر، رغم كل ما بذلته آلة التضليل والتدليس من جهد، وما ابتلعته من أموال لإقناع المغاربة أنهم بصدد استرجاع أراضيهم باقترابهم التدريجي من التحالف مع طغاة العصر.
ورغم المشاعر المتوجسة لدى عموم المغاربة تجاه إيران، إلا أن ما تحققه هذه الأخيرة، بشكل مباشر وعبر أذرعها، من توازن ولو هشّ مع الكيان الإسرائيلي، جعل الضربات الكبيرة التي تلقاها حزب الله اللبناني تساهم في حالة الكآبة التي سادت الأجواء.
في ليلة أمس، رأى البعض أن الضربات الإيرانية تعيد بعض التوازن إلى المشهد الجيوسياسي في المنطقة، حيث تحد من الهيمنة الإسرائيلية المدعومة غربيًا وتضعف النفوذ الإقليمي الذي تتمتع به إسرائيل. توازن يُنظر إليه كعنصر مقاومة لمشاريع الهيمنة الاسرائيلية التي تستهدف الدول العربية والإسلامية.
ولا يمكن للدولة المغربية أن تضيّع فرصة فهم رسائل هذا التفاعل الشعبي. فبالرغم من أن المغرب يوازن حاليا بين علاقته بإسرائيل ودعمه للقضية الفلسطينية، فإن هذه المشاعر الشعبية تثبت أن الشعب المغربي لا يزال داعمًا للفلسطينيين.
وضع يعني أن ورقة التطبيع مع إسرائيل التي يوظّفها صانع القرار في معركته الخارجية، تنتج مفعولا داخليا يؤدى إلى تآكل شعبيته وتعميق الهوة بينه وبين المجتمع. ولابد من تقدير هذه “الخسارة” حقّ قدرها ووضعها في ميزان المصالح الاستراتيجية والحقيقية، لا التكتيكية والعابرة.
لا أعرف أية صدف هذه التي جعلت من شهر أكتوبر يكتسب هذه الحمولة الخاصة، بعدما شهد في العام الماضي معركة طوفان الأقصى المجيدة، وحلّ في هذه السنة بمشهد القصف الصاروخي الإيراني لإسرائيل؛ في الوقت الذي يعتبر فيه هذا الشهر كلاسيكيا، موعدا سنويا لمناقشة ملف الصحراء في مجلس الأمن الدولي وإصدار قرار بشأنه.
المؤكد أن لهذا الشهر معطى آخر، يجعله يوصف ب”أكتوبر الوردي”، لكونه بات يشهد حملة عالمية للتوعية والتحسيس ضد سرطاني الثدي والرحم…
أليست إسرائيل ورما سرطانيا في رحم الأمتين العربية والإسلامية؟
أكتوبر وردي مجيد!