story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أطفِئوا النار

ص ص

مخيف ومرعب ومقيت هذا الذي عشناه ليلة أمس على طول خريطة المغرب. من وجدة إلى انزكان وآيت عميرة مرورا بتمارة وبني ملال… دهس وتخريب واقتحام لممتلكات عامة وخاصة ونيران مشتعلة.

أمام هذا الانفلات الذي وقع أمس، لا بدّ من تذكير بسيط وحاسم: أصل الحكاية كان صوتا عاقلا يطالب بالمدرسة والسرير في المستشفى وباب رزق كريم. وهناك في الساحة، كان شباب يمسكون بهواتفهم لا بالحجارة، ويهتفون بأسئلة لا بشعاراتٍ عدميّة.

حين تُكافَأُ تلك السلمية باستعراض القوة والاقتياد العشوائي، ينفتح الباب على الفوضى، وتزدهر بين الظلال عصابات التخريب ويتحرّك المتربّصون بالأمن.

لقد أخطأت الدولة يوم قرّرت معاملة سؤال اجتماعيّ بمنطق أمنيّ خالص، والمجتمع يخطئ إن سمح لردود الفعل أن تبتلع العقل وتُجرِّد المطلب من وجهه الأخلاقي.

لابد لنا بعد الذي عشناه ليلة أمس من كوابيس، أن نستحضر كون:

  • ليست القوة وحدها ما يصنع الاستقرار. بل لابدّ من تحرير أدوات التدبير السياسي، والإنصات، والتفاعل، ومدّ الجسور، وقبول النقد، وترك قنوات صعود المطالب والاحتجاجات إلى أجندة صناعة القرار بدل تكميم الأفواه وترويج رواية “العام زين” و”نحن بخير”؛
  • لا يمكن تحميل المواطنين الذين يمارسون حقوقهم الدستورية في التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي ورفع المطالب بطرق مسؤولة وحضارية، مسؤولية انزلاقات وطيش وجرائم الآخرين، ولا نتائج سوء التدبير وتحميل الأجهزة الأمنية ما لا تحتمله طاقتها ولا هو أصلا دورها؛
  • مثلما نطالب الدولة بالمرونة وتجاوز التطبيق الحرفي للقانون إلى استدعاء روح القانون عندما يتعلّق الأمر بتحرّك احتجاجي كبير واستثنائي، وإفساح المجال لهذه التعبيرات ومرافقتها وتأمينها؛ نطالب المجتمع بدوره بمراعاة السياقات وأخد مآلات الأمور بعين الاعتبار، لا شيء مطلق.

لقد حذّرنا الدولة من مثل هذا الانفلات منذ تحرّكت أول مرة لمنع وتفريق احتجاجات شبابية سلمية ومشروعة. لكن التحذير اليوم بات يشمل الجميع، دولة ومتظاهرين: هذا الانحراف، وقبل أي نقاش حول المسؤليات، ينبغي أن يقف عند هذه الحدود.

على الدولة أن تراجع اختياراتها السلطوية في التعاطي مع المبادرة الأصلية، السلمية والحضارية والمشروعة، وعلى الشباب الذين أخرجهم حبّ بلادهم إلى الشارع، أن يكونوا اليوم أداة تهدئة وحفاظ على الاستقرار.

لا صحة ولا تعليم ولا شغل إن اضطرب الاستقرار.

ولا مستقبل لنا ولا تنمية ولا عدالة إن أصبح المغربي في مواجهة أخيه المغربي كيفما كانت مواقعهما وانتماءاتهما.

السفينة واحدة والمصير واحد.

إن اختيار مواجهة دعوات التظاهر السلمي بالقوة والاعتقالات العشوائية والسريالية، هو استدعاء ضمني للعنف، واستفزاز لفئات أخرى، وفتح للباب على أجندات التخريب والتدمير، وهو ما ينبغي التراجع عنه قبل فوات الأوان، ووقف هذا المشهد الذي عشناه يوم أمس الثلاثاء 30 شتنبر 2025، بتقديم العشرات من الشبان المعتقلين وعرضهم على القضاء بعدما كان أغلبهم موضوع توقيفات تفرّجنا جميعا على عشوائيتها.

وإذا كانت الغاية من الدعوة إلى التظاهر والاحتجاج هي السعي إلى تحسين الأوضاع، وفرض أولوية التنمية، والحصول على خدمات اجتماعية أكثر وأجود؛ فإن أخطاء التعاطي الرسمي مع هذه الدعوات التقت مع انحرافات وتجاوزات بعض الفئات الطائشة أو المنحرفة أو الإجرامية، ما أنتج لنا هذه المشاهد المخيفة والمقيتة للهجوم على السيارات والمرافق العمومية والخاصة، وتعريض حياة وسلامة مواطنين، منهم من يحتج ومنهم من يقوم بوظيفته النظامية في صفوف القوات العمومية.

لقد تابعت ليلة أمس عبر الهاتف والشبكات الاجتماعية، كيف بات بعض المغاربة ليلتهم خائفين ومرعوبين.

نعم هناك من احتمى ببيته وضمّ إليه أطفاله وامتنع عن الخروج خوفا مما يجري في الشارع العام، كما كان الحال في آيت عميرة.

ما عاشته هذه الأخيرة لا يمكن قبوله أو تبريره بأي شكل من الأشكال. هناك من المواطنين من لم يسترجع بعض طمأنينته إلا بعد وصول عامل الإقليم إلى المدينة وقيادته السلطات إلى استعادة السيطرة على الفوضى والدمار الشاملين.

وما شاهدته في الجوار القريب للعاصمة الرباط، في مدينة تمارة، من مظاهر المواجهات العنيفة والحجارة والتي ألقيت على أفراد القوات العمومية والتخريب الذي همّ ممتلكات عمومية، لا يمكن قبولها أو تبريرها أو حتى تجاهلها. الكل بات اليوم مسؤولا ومطالبا بالمساهمة في محاصرة الانحراف الخطير وكفّ الانجراف الذي بدأ ولا نعرف كيف سينتهي.

أما ما عاشته مدينة وجدة، منذ يومين وليس بالأمس فقط، فيستدعي استنفارا وتعبئة وطنيين، لأنه يعكس تدهور الأوضاع ووصولها مرحلة الانهيار الشامل. ذلك اليأس والسخط اللذان ووجهت بهما السلطات العمومية، لم تزده عمليات الدهس التي حصلت باستعمال السيارات الرسمية للأمن، إلا صبّا للزيت على النار.

واجب الدولة اليوم ليس استعراض القوة في الشوارع، بل إظهار المسؤولية عبر التمييز بين المحتجّ السلمي والمخرّب، والإطلاق الفوريّ لسراح كل من اعتقلوا بلا جرم سوى الوقوف في ساحة ورفع شعار أو لافتة، وفتح تحقيقات قضائية شفافة في كل استعمال غير مشروع للقوة، تماما كما يجب أن تُفتح في اعتداءات وُثّقت على أملاك الناس وأجسادهم.

ومن الجانب الآخر، واجبُ الشباب الذين تصدّروا المشهد أن يحموا مطلبهم من التلوّث، وممتلكات ومصالح الدولة والتجّار من التخريب، وإعلان هدنة، ولو تكتيكية، توقف النزيف وتمنح الحوار فرصة ليلتقط أنفاسه.

بلادنا تحتاج الآن إلى عقل بارد ولسان صادق. هذه ليست لحظة تسجيل النقاط ولا تصفية الحسابات، بل لحظة حماية ما تبقّى من ثقة هشّة بين الدولة ومواطنيها.

الطريق الآمن واضح: كلمة سياسية مسؤولة تُسمّي الأشياء بأسمائها، وتعترف بالتقصير، وتتعهد بمسار محدّد المواعيد والأهداف، مقابل تجديد الاتزام المدنيّ بوقف أي شكل من أشكال العنف وحماية الممتلكات العامة والخاصة.

لا يليق بالمغرب أن يبيت على صور الدهس والحرق والكسر، ولا أن يستيقظ على صمت رسمي يضاعف الغضب ويُغري الطائشين بالمزيد من العبث.

من واجبنا جميعا أن نقولها بلا تردّد: لا شرعية لمشهد تُكمَّم فيه أفواه من يجيبون الصحافة في الشارع، ولا كرامة لسلطة تُخضع من لا سلاح لهم لامتحان الإذلال.

وفي المقابل، لا معنى لادّعاء السلمية مع تغطية وجوه تتستر على سكاكين تُشهر في وجه شرطيّ أو جار. من يُريد لهذا البلد أن يتقدّم، عليه أن يدفع باتجاه خط فاصل لا يلتبس: احتجاج سلميّ مكفول ومصان، وتخريبٌ مُدان ومُطارد بالقانون.

ما جرى في وجدة وآيت عميرة وفضاءات الجوار القريب للعاصمة ليس خلافا في الرأي؛ إنه مسٌّ مباشر بطمأنينة بيوت نامت على الخوف.

علينا أن نُثبت، مرّة واحدة على الأقل، أنّنا قادرون على إدارة أزمة بلا مزيد من الضحايا والخسائر.

على السلطة أن تُصحّح بقرارات شجاعة ومسؤولة، وعلى المحتجّين أن يُثبتوا أنّ مطلبهم أكبر من أي رغبة في كسر الزجاج أو العظام.

من هنا يبدأ الرجوع إلى العقل، ومن هنا فقط يمكن أن يستقيم النداء: أنقذوا ما تبقّى من الثقة، وامنحوا المغرب فرصة كي يتذكّر نفسه بلدا ممكنا، لا ساحة مفتوحة لاختبار الجنون.