story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أسيدون.. جنازة تُربك الكلمات

ص ص

لم أكن أحتاج جنازة سيون أسيدون لأقتنع بأنه رجل استثنائي. لكن مشهد وداعه أمس في المقبرة اليهودية بالدار البيضاء كان أكبر من سيرة فرد، وأقرب إلى استفتاء أخلاقي على ما يبقى من هذا الواقع حين تُرفع عنه كل الأقنعة.

مقبرة يهودية، ونعش يهودي، وأعلام فلسطين تعلو، وهتافات ضد الصهيونية تنطلق، في حضرة حاخامات ويهود مغاربة ومناضلين يساريين وإسلاميين وليبراليين ومستقلين، رجال أعمال وآخرون من دون عمل، علمانيون ومتدينون، نساء ورجالا، شيوخا وشبابا؛ مشهد لا تصنعه بيانات رسمية ولا منصات رقمية.

مشهد لا يصمّمه مستشار تواصل، بل ينفلت من عمق شعور جمعي نادر: لسنا أعداء لليهود، ولسنا محايدين أمام الظلم، ولسنا مستعدين لنُستعمل ديكورا في تبييض مشروع استعماري. هذا هو المعنى الذي لا يجوز أن نفوّت لحظة التقاطه.

لم يُدفن سيون أسيدون كاستثناء فولكلوري؛ بل دُفن كما عاش، يهوديا مغربيا، يُصلَّى عليه في مقبرة طائفته، ويُغطى نعشه بعلم فلسطين، ويُشيّعه من يعتبرون أنفسهم امتدادا لمعركته ضد الاستبداد هنا والاستعمار هناك.

في هذا المغرب الذي أُريد له، خلال السنوات الأخيرة، أن يخلط عن عمد بين “المكوّن العبري” و”المشروع الصهيوني”، جاءت جنازة هذا الرجل لتعيد الفرز بوضوح: هناك يهود مغاربة، كاملو المواطنة، ينتصرون لفلسطين بلا عقد؛ وهناك صهاينة، مهما كانت أصولهم، يقفون في الجهة الأخرى من التاريخ.

كانت جنازة الرجل اختبارا لنا أكثر مما كانت تكريما له. لأن هذا البلد، الذي طالما تفاخر بتعدده، كان يحتاج دليلا حيا على أن هذا التعدد ليس مجرّد زخرفة دستورية. مشهد رايات فلسطين في مقبرة يهودية مغربية، بهتافات ضد الاحتلال، في وداع يهودي مغربي مناهض للصهيونية، هو ما عجزت كل خطابات “المكوّن العبري” عن صياغته: مغرب يمكن أن يكون فيه اليهودي رمزا لمقاومة المشروع الصهيوني، لا جسرا لتمريره.

الجنازة طرحت، في الآن نفسه، سؤالا ثقيلا لا يجوز تغليفه بالدموع وحدها: ماذا سنفعل بهذا الدرس؟ هل سنكتفي بتكرار أن “سيون أسيدون خسارة كبيرة”، ثم نعود إلى طبائعنا القديمة: صمتٌ أمام الغموض الذي يلفّ حادثا مميتا، تطبيعٌ يتسلّل عبر الاتفاقيات والصفقات والمناهج، وفسادٌ يتغذى من هشاشة المحاسبة؟ أم سنقبل التحدي الذي وضعه النعش المغطى بالألوان الفلسطينية في قلب المقبرة اليهودية: أن نفصل بوضوح بين اليهودية والصهيونية، بين احترامنا لمواطنيْن يهود وبين رفضنا لجرائم كيان استعماري؟ وأن نفصل، بالقدر نفسه، بين الدولة التي تحمي حقوق الناس، وأي منظومة تستعمل “raison d’État” لتمرير ما لا يمرّ أخلاقيا؟

ما جرى أمس لم يكن مجرّد “لقطة جميلة” لوسائل التواصل، بل كان إعلانا عمليا عن وجود كتلة مغربية واسعة ترى في فلسطين جزءا من تعريفها للعدل، وتفهم أن مناهضة الصهيونية ليست تعصبا دينيا ولا طائفيا، بل امتداد لرفضها للتعذيب في مراكز الاحتجاز، وللرشوة في الإدارات، وللاحتقار في سياسات التعليم والصحة.

الكتلة نفسها التي وجدت في سيون أسيدون، اليهودي السجين السابق، رجل الأعمال النزيه، ومناضل المقاطعة؛ مرآة نادرة تفضح لنا قلة ما تبقّى من منسوب الاتساق في حياتنا العامة.

هذه الجنازة قالت شيئا آخر، هو إن “معاداة السامية” التي تُستعمل لتكميم الأفواه، لا تسكن شوارع الدار البيضاء والرباط وفاس؛ بل تسكن العواصم الغربية التي صنعت الهولوكوست ثم صنعت إسرائيل كتعويض استعماري خاطئ.

في المغرب، على الأقل كما ظهر أمس، فالتحدي ليس الكراهية لليهود، بل مقاومة التوظيف السياسي لمأساة اليهود لتبرير مأساة الفلسطينيين.

لذلك، سيكون من التبسيط القاتل أن ننظر إلى جنازة سيون أسيدون كخاتمة حكاية. هي بداية التزام جديد، مفاده أن نمنع تحويل الرجل إلى أيقونة معقّمة تُعلّق على الجدران بينما تُدفن أسئلته معه. وأن نستمر في المطالبة بالحقيقة كاملة حول الحادث الذي أسقطه في غيبوبته؛ لا من باب الشك المجاني، بل وفاء لـشخص قضى عمره يذكّرنا بأن “لا أحد فوق سؤال الحقيقة”. وأن نمنح الأجيال القادمة فرصة أن ترى في هذا البلد شيئا أكثر من “استثناء دعائي”، أن ترى فيه وطنا يستطيع أن يحتضن يهوديا يدفن تحت علم فلسطين، دون أن يرتجف من ابتزاز “معاداة السامية”.

في مشهد الأمس، كان سيون أسيدون، حتى وهو جسدا صامتا، ينجز آخر مهامه: يحرّر الذاكرة اليهودية المغربية من قبضة الصهيونية، ويحرج كل من حاول اختزال “التعايش” في صورة بروتوكولية فوق سجادة حمراء.

مشهد يذكّرنا بأن المعنى أغلى من العمر، وأن الضمير، حين يرحل صاحبه، إما أن يتحوّل إلى لافتة مريحة، أو إلى وخز دائم.

إذا كان لوداع رجل كهذا أن يترك فينا شيئا، فهو هذا الوعد البسيط والصعب معا: ألا نسمح لضميره بأن يموت بموته. وأن تبقى جنازته، بما حملته من رايات وأصوات ووجوه متجاورة، سؤالا مفتوحا في وجه كل من يراهن على ذاكرتنا القصيرة.