story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أسيدون.. الضمير الباقي

ص ص

صيف العام الماضي (2024)، بعد انتهاء تصوير حلقة “ضفاف الفنجان” مع سيون أسيدون، وقع تفصيل صغير ظل يلحّ عليّ هذا الصباح كطعنة مؤجلة. كان قد امتد بنا النقاش داخل الأستوديو أكثر مما توقّعنا، وحين أنهينا التصوير كان القطار الذي حجز تذكرته إلى المحمدية قد غادر.

اعتذرنا عن هذا الخلل المهني المعتاد، فابتسم تلك الابتسامة الهادئة التي لا تزيدها السنوات إلا صفاء، وقال ببساطة تخفّف من ثقل الموقف: “لا بأس، حصل خير”.

عرضت أن أقله بسيارتي، وقبل.

في الطريق بين الرباط والمحمدية، على امتداد تلك المسافة التي نقطعها عادة على عجل دون أن ننتبه لمن يجلس بجوارنا، تراجع سيون المناضل، والسجين السابق، وأيقونة محاربة التطبيع، وراح يتقدّم سيون الإنسان.

تكلّمنا في كل شيء إلا ما يصلح لعنوان رئيسي: ضحك، وأسرة، وتفاصيل حياة، ونظرة على البلد أقل صخبا وأكثر حنانا مما يظهر في اللافتات. كان يوزع أفكاره بذات الاقتصاد الصارم الذي يواجه به الهدر في السياسة والمال العام، لكن بلا خشونة، بلا استعلاء من صاحب “السيرة الثقيلة” على صحافي أصغر منه سنا وسيرة.

في لحظة عابرة، التفت إليّ وسألني عن محطة الوقود التي أفضّلها. لم يكن السؤال من أسئلة المجاملة. كان يفتش، كعادته، عن مكان صغير آخر يمكن للمعنى أن يتسلل منه إلى الواقع. شرحت له حساباتي العملية: القرب، الكثرة، العادات…

قال بهدوء الأستاذ الذي لا يرفع سبّابته: إذا أردت أن تحترم مبدأك وأنت تملأ خزان سيارتك، فاختر شركة مغربية خالصة، أقل جشعا من الآخرين، حتى لو كانت محطاتها قليلة وتحتاج أن تبحث عنها، ووجّهني إلى إحداها.

“المبدأ يستحق شوية جهد”، قالها وهو ينظر إلى الطريق أمامنا، كأن المسألة تتجاوز البنزين إلى كل ما في البلد من أسئلة مؤجلة.

اليوم، وأنا أكتب خبر وفاته بعد ثلاثة أشهر من غيبوبة أعقبت حادثا داخل البيت نفسه الذي أوصلته إليه تلك الليلة، أجد نفسي أسأل السؤال الذي تهرب منه الكتابة المهنية عادة: ماذا نفعل نحن الذين أخذنا الرجل إلى باب المكان الذي سيُختبر فيه جسده بعد عام واحد بالصدفة والفزع والغموض؟

لا أزعم علاقة خاصة، ولا أبحث عن دراما شخصية؛ لكن هذه المفارقة الصغيرة تلخّص شيئا في معنى سيون أسيدون: رجلٌ ظل يعتبر ألا شيء “تفصيليا” حين يتعلّق الأمر بالعدل، وأن الطريق إلى الجريمة الكبرى مفروش دائما بتنازلات صغيرة، بصمت صغير، بمحطة وقود لا نسأل من يملكها، باتفاقية لا نقرأ بنودها، وبحادث لا نصرّ على معرفة حقيقته.

حين نُقل جثمانه إلى الطب الشرعي، ارتاح جزء في داخلي لم يعرف كيف يعبّر عن ذلك دون شعور بالذنب. ليس من المقبول أن يُدفن سيون أسيدون تحت طبقة إضافية من الغموض.

الرجل الذي قضى عمره يطالب بكشف الحقيقة في ملفات التعذيب، والفساد، والتطبيع، لا يليق به وداع رسمي سريع، ولا خطاب جاهز عن “قضاء وقدر” يحذف الأسئلة المزعجة. أقل ما يستحقه هو ما كان يطالب به لضحايا لا يحملون اسمه: تحقيق جدي، وجواب واضح، واحترام لعقل من عرفوه ومن لم يعرفوه.

لكن امتحاننا معه لا يقف عند سبب سقوطه، بل عند معنى وقوفه طوال ستة عقود. سيون أسيدون لم يكن زينة لخطاب التعددية، ولا ورقة تلوّح بها الدولة لتثبت تسامحها، ولا أيقونة يستدعيها اليسار في احتفالاته الخاصة. لقد كان ميزانا.

في لقائنا المصوّر، وفي الطريق إلى بيته، وفي شهادات من نعوه اليوم من فلسطين والمغرب، من يساريين وإسلاميين وحقوقيين وعلماء، يتكرر المعنى نفسه: هذا رجل عاش بمعيار واحد، ودفع ثمنه كاملا، ولم يعرضه للتفاوض.

ربما لهذا يوجعنا رحيله على هذا النحو. لأنه يضعنا، نحن الذين نكتب عنه، أمام صورة لا يمكن تجميلها بسهولة: هل نملك شجاعة تطبيق قاعدته البسيطة في تفاصيلنا اليومية كما طبّقها هو في مساره كله؟ هل نبحث عن “المحطة الأقل جشعا” في السياسة كما في الاقتصاد؟ هل نرفض التطبيع مع الظلم حين يكون قريبا منا كما نرفضه حين يكون على أرض فلسطين؟ هل نطالب بالحقيقة في قضيته كما طالب هو بالحقيقة في قضايا الآخرين، لا لأن اسمه كبير، بل لأن القاعدة لا تتجزأ؟

أكتب هذا وقلبي مثقل بحزن شخصي لا أنكره، لكن مهنتي تمنعني من الاكتفاء به. سيون أسيدون لم يعوّدنا على البكاء، بل على الحرج من أن نبكي ثم نعود إلى محطات الوقود نفسها، وإلى صمتنا نفسه، وإلى تصديق الرواية الأسهل كل مرة.

لهذا، لن يكون هذا الوداع نصا تأبينيا يوزّع الأوسمة بأثر رجعي، بل دعوة محرجة لنا جميعا: أن نعامل هذا الرجل، في موته، بالحد الأدنى من الوفاء لما عاش من أجله؛ أن نسأل، وأن نصرّ، وأن نفكّر مرتين قبل أن نوقّع، وقبل أن نصمت، وقبل أن نمرّ بجانب “الحادث الغامض” كأنه لا يعنينا.

ذلك، في النهاية، ما تعلّمته في تلك الطريق القصيرة بين الرباط والمحمدية: أن الأخلاق ليست خطابا عالي النبرة، بل قرار بسيط في لحظة عابرة. وأن الرجال الكبار يُختبر صدقهم حين يُنصحون بمحطة وقود، كما يُختبر صدقنا نحن حين نقرر ماذا نفعل بذكراهم.

سيون أسيدون، رحمة الله عليه، ترك لنا ما هو أثقل من السيرة… ترك لنا معيارا، ومن الخيانة أن نحوله إلى مجرد قصة جميلة عن رجل مختلف.