أخْنَشَة الدعم
كلما سمعت رئيس الحكومة عزيز أخنوش تبادرت إلى ذهني فكرةٌ كنت أتحيّن الوقت لكتابتها، وكانت تتأجّل لأن هذه الحكومة وكل شأنها لم يكن باستمرار حدثاً يستحق التعليق، إلا كلاما مكرّرا عن تبادل المصالح وتعيينات على أساس الولاءات والعلاقات، ومادمنا منذ وقت غير يسير دخلنا مرحلة الإضرار بالسياسة وهيمنة “الأوزان الخفيفة” على المشهد.
ودوما كانت تلفتني لغة فيها الكثير من القفز في الهواء والوثوقية في خطاب أخنوش، حتى كاد يقول ( ومعه كتيبة من القوّالين) إنه يترأس أحسن حكومة في تاريخ المغرب، وأن إنجازاتها غير مسبوقة، لولا أننا نعيش في هذا البلد، ونغشى أسواقه، ونجالس ناسه، ونقاسي ما يقاسون، وندرك أن كلامه (على قلّته وركاكته وارتباكه) أمانيَ أكثر من أن تكون واقعاً.
وإن الرجل، المزهو بانتصاره الانتخابي على حزب العدالة والتمنية (بالمناسبة، كم كلّفه من أموال؟)، والذي يعتقد أنه هَزَم حزب الإسلاميين الذين أتعبوا من سبَقَه خلال عشْرية ما بعد الربيع العربي، يحملُ الكثيرَ من الأوهام عن آثار سياساته على فئات واسعة من الشعب.
وإن سياسات الدعم التي انتهجتها، بصيغتها وآلياتها، وحتى قيمتها، دليلٌ على أن هذا ليس ممّا يشغل الرجل كثيرا إلا في حدود عوائدها الانتخابية، وضمن احتياج الدولة لإبقاء الأمور تحت عتبة الغضب الشعبي.
والحماسة الطارئة لدى أخنوش لتسويق الدعم إنجازاً يستجلبُ عليه التذكير باتهام رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران له برفض الدعم المباشر للفقراء، إلى حدّ أنه جعله بندا ضمن التفاوض السياسي للمضي قدما في تشكيل الحكومة، في مؤشر على ما كان يفكّر فيه أخنوش يومها، إذ كان يُقيِّمُه فرصةً انتخابيةً قد يجني ( إسلاميو) العدالة والتنمية حصادَها، وهو أمر لم يكن مرغوبا في أكثر من مساحة من مساحات اتخاذ القرار والفعل السياسي في بلدنا.
اليوم تتلبّس الوثوقية رئيس الحكومة ليروّج، من ضمن إنجازات لا توجد إلا في مخيّلته، لدعم مباشر “جالبٍ لفقر الدم”، حتى يزعم (على ما تُسْعِف الذاكرة) أنّ مواطنين تركوا شغلهم ليستفيدوا منه (!!!!). علما أنه دعمٌ لا يُسْمن ولا يغني من جوع، ويصحّ بشأنه قول “المنْدبة كبيرة والميت فار”.
ومع التعيينات الأخيرة، يتّضح أن عزيز أخنوش يتّجه نحو تحويل الدعم المباشر إلى أصْلٍ انتخابيٍ وهو يحكم السيطرة على الوكالة الوطنية للدعم الاجتماعي التي وضع على رأسها وفاء جمالي، السيدة المقربة منه التي شغلت منصب السكرتيرة العامة لمكتبه في رئاسة الحكومة بين 2021 و2024، ومديرة ديوانه كرئيس للتجمع الوطني للأحرار (2016-2021)، ومستشارته حين كان وزيرا للفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية (2014-2017)، ومسؤولة التخطيط الاستراتيجي في مجموعة “أكوا القابضة” (2010-2014) المملوك لعائلة أخنوش.
إننا فعليا بصدد “أخْنَشَة الدعم” (قياساً على نكتة “أخْوَنة الدولة”) في سياق حمْلة انتخابية مفتوحة ولا تتوقّف، يخوضها رئيس الحكومة بكل حماوةٍ ليستمر في قيادة الحكومة التي تبيض قوانينَ مفصّلة على المقاس ومصالحَ وأموالاً، وتعيينات تسرُّ المقرّبين.
وإنّ هذا الكلام ليقترب من اتهام رئيس الحكومة باستغلال مشروع وطني وتحويله إلى استثمار انتخابي.
ومع ما في هذا الكلام من قسوةٍ، فإنه مسنودٌ بشواهد من ممارسة سياسية سابقة لرئيس الحكومة الرافض للدعم المباشر حين كان “سوبر وزير” وجزءاً من ائتلاف حكومي يرأسه المتهمون بـ”أخْوَنة الدولة” ( الذين تبيّن فيما بعد أنهم أضعف من أن يحفظوا حزبهم من التشتّت فضلا عن أن يخترقوا الدولة)، قبل أن ينقلب أخنوش على نفسه وقد صار رئيسا للحكومة، وتتحوّل المصلحة السياسية والحسابات وتتغيّر المواقِع.
إن الدولة التي تتحسّس باستمرار من استغلال مشاريع الدعم لتحصيل عائد انتخابي من قبل الفاعلين السياسيين، ورفضت خلال أزمة كورونا مثلا تدخّل الفاعل “الحكومي/ السياسي” في توزيع المساعدات، وحصَرتها في يد رجال السلطة، مخافة استغلالها سياسيا، تتسامح اليوم مع هذا السلوك المُسْتجدّ.
وشخصيا أدعم أن يكون الدعم بكل أشكاله جزءاً من أعمال الحكومة، انسجاما مع فكرة أن الحكومة يجب أن تتحمّل مسؤوليتها في كل ما يقع تحت سلطاتها، فإن أحسَنت كُوفِئت انتخابياً، وإن أخطأت عُوقِبت من خلال الصندوق، لكنّ “الدولة” مطالبةٌ بمعيار واضحٍ وموحّد في مقاربة أفعال كل الهيئات السياسية حين تولي المهمة الحكومة.
وإن “كان الشيء من مأتاه لا يستغرب”، فإن أخنوش، بكل انتهازية رجل الأعمال الذي يحسب الحِسْبة في السماء ويدرك أين الربح والخسارة، يُعْمِلُ عقلية التاجر في التدبير الحكومي، ويتصرّف بمزاج المستثمر في تدبير أشغال الحكومة، والشواهد أكثر من أن تُحصى، من عوائد تجارته التي توسّعت مذ صار ريئس حكومة، إلى الصفقات التي يحصّلها المقرّبون والمقربون من المقربين إلى ما لا نهاية، وفق منطق الهمزة، حتى قال بعض الظرفاء عن أصحاب رئيس الحكومة أنه (اللي ما دارش لباس مع حكومة أخنوش عمرو يدير لباس). لكن ما يهمّ الآن هو تدقيق السلوكِ الجاري في علاقة أخنوش بالدعم المباشر، لترسيم معيارٍ واضح في تدبير الشأن العام، حتى لا نكيل بمكيالين مرة أخرى بين الفاعلين السياسيين.
حكومة أخنوش الثانية
وارتباطا بحكومة أخنوش، فقد جرى تعديل حكومي هذا الأسبوع على مقاسه، ووفق هواه.
ومن يدعم أن تكون للحكومات صلاحيات واسعة لتدبير شؤون المغاربة لا يجب أن يرفض أن يختار رئيس الحكومة الوزراء الذين يرى أنهم مأهلون ليتقاسموا معه أعباء تنزيل البرنامج الحكومي، مادمنا نجري انتخابات يفترض أنها تفضي إلى من يحكم (مثالية؟!!)، ومادام رئيس الحكومة مسؤولا أمام الشعب (هل يعتبر نفسه كذلك؟).
وبنظرة إلى لائحة الوزراء الجدد الملتحقين يدرك المرء سريعا أن اقتراحاتٍ جرت على أساس مصالح وولاءات وعلاقات، وبعضها مدفوعٌ بمدى الحماسة لاقتراف أي كلام عابثٍ ممن امتلكوا “جبهةً صحيحة” سخّروها لتمجيد أخنوش، وبعضها بدت كمكافأة لممن تدرّجوا في شركات رجل الأعمال عزيز أخنوش، بما يثير شبهات الابتعاد عن التجرّد والنزاهة في الاقتراح.
وقد كرّس التعديل الحكومي، والذي لم يمسّ الهيكلة والنواة الصلبة (رغم خروج 8 وزراء) ووقع في حدود التعديل الجزئي، بقاءَ وزارات بعينها بعيدا عن أية حِسبة سياسية، فلا تغيير لوزراء الداخلية والخارجية والعدل والأوقاف والوزير المنتدب المكلف بإدارة الدفاع الوطني خارج الإرادة الملكية، ضمن قواعد صارت بحكم أن “السماء فوقنا”.
وإن توسّع الحكومة إلى 31 وزيرا بدا طبيعياً باعتبار السوابق (نفس عدد حكومة بنكيران الأولى، وأقلّ من عدد حكومة العثماني (2017) التي ضمت 39 وزيرا وكاتب دولة)، مع هندسة حكومية معقولة.
ومن حقّ الناس أن تسائل رئيس الحكومة وسلطة التعيين عن المغزى من التعديل الحكومي، إذ لم يبْدُ صادراً عن أي رهان سياسي، ولم يتجاوز حدّ تغيير الوجوه وتدوير المناصب، ومكافأة المقرّبين والمرؤوسين. سيكون مفيدا أن يوضّح رئيس الحكومة أسباب التعديل وخلفياته ومعاييره، وأيضا الأهداف المتوخاة من صَرْفِ وزراء عن الخدمة والإتيان بآخرين.
وهذا لا يمنع من الترحيب، في المقابل، بتعيين أسماء أراها جديرة بالمنصب مادامت عُيّنت في المكان الصواب، كتعيين عز الدين الميداوي وزيرا للتعليم العالي بعد كل الإصلاحات التي أنجزها في جامعة ابن طفيل في القنيطرة، وتعيين أحمد البواري وزيرا للفلاحة بعد نجاحاته كمهندس وإطار في أكثر من مشروع، بينها الربط المائي بين حوضي سبو وأبي رقراق.
قصارى القول
يُفترض في كل عاقلٍ أن يتمنى نجاح حكومة بلده، لأن ذلك يعني تحسيناً لأحول الناس وتأهيلا للوطن وربحا لزمن التنمية. وإن كاتب هذه السطور يتمنى نجاح كل حكومات المغرب، بناءً على قاعدة شديدة البساطة، مادام غير معنيٍ بخوض انتخابات وليس طرفاً سياسيا أو خصما انتخابيا، وما دام يدرك أن “الواقع لا يرتفع”، والواقع الآن أن أخنوش رئيس حكومة، وأنه سيبقى رئيس الحكومة إلى انتهاء ولايته، مع احتمال أن يجري التجديد له، وهو الذي يخوض حملةً انتخابية مفتوحة.
وإن كان هذا ما يتمناه المرء، فإنه يواجه حقيقة أنّ “ما كلُّ ما يتمنى المرء يدركهُ”. للأسف الشديد، بعث رئيس حكومتنا قدراُ معتبرا من الإشارات على أنه غير معني بالالتفات إلى كل الشعب، وما أفرج عنه من دعم كان يرفضه لا يتجاوز حدّ التكسُّب الانتخابي، وقد أمسك بكل خيوطه ووضع على رأس مدبّريه مقرّبيه. فهل يجوز القول بـ”أخْنَشَة الدعم؟”.