أخلاق السوق

لا نواجه مع مشروع القانون المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة مجرد تعديل تقني أو إعادة ترتيب داخلية، بل نقف أمام انسحاب رسمي من فلسفة التنظيم الذاتي كما استقرت في التجارب الديمقراطية، وكما تبلورت، بصعوبة، في السياق المغربي.
مشروع لا شك أنه كأي مبادرة تشريعية، يؤخذ منه ويردّ، لكنه يتميّز بثلاثية تشكل مجتمعة مثلثا حاد الزوايا يُهدد مستقبل الصحافة ووجودها في المغرب:
- أولها إقصاء الجمهور وتحويل المجلس من فضاء مجتمعي إلى ناد مغلق تديره المؤسسات الرسمية؛
- وثانيها تمكين الرأسمال من الهيمنة والتشريع الأخلاقي عبر اعتماد منطق “من يملك يقرر”؛
- وثالثها تسليم مفاتيح الحجب والإعدام المهني لهيئة لا رقابة قضائية عليها، بدعوى حماية الأخلاقيات.
ثلاثية قاتلة لا تخدم التنظيم ولا الاستقلال، بل تكرّس الخضوع وتفتح الباب أمام رقابة مقنّعة، ووصفة جاهزة لإعادة هندسة الحقل الإعلامي على مقاس السلطة والسوق، المستمتعين بشهر عسل لا ينتهي.
من يقرأ مشروع القانون الجديد المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، ويقارن نصوصه بحمولة التجارب الدولية، لا يحتاج لكثير من التمحيص ليكتشف أن الأمر لا يتعلق بمجرد إعادة تنظيم، بل بوأد لفلسفة التنظيم الذاتي نفسها، وذلك بإرساء دعائم مثلث بيرمودا الذي سيبتلع ما تبقى من حرية الرأي والتعبير في المغرب.
أولا: طرد المجتمع
ليس من قبيل الترف المؤسساتي أن يُمنح الجمهور مقعدا داخل مجالس التنظيم الذاتي للصحافة. فالإعلام في جوهره ليس شأنا مهنيا محضا، ولا شأنا سلطويا خالصا، بل هو علاقة ثلاثية: بين الصحافي، والمعلومة، والمواطن.
وعندما يُستبعد هذا الأخير من آليات الرقابة والتنظيم، تُصاب المنظومة كلها بالخلل. فالجمهور ليس مجرد متلقٍ سلبي، بل هو الطرف الأكثر هشاشة وتأثرا بأخطاء الصحافة، والأكثر حاجة إلى ضمانات المصداقية والنزاهة والحق في التصحيح والإنصاف.
من هنا، صار حضور الجمهور داخل مجالس الصحافة في الديمقراطيات المتقدمة معيارا أساسيا لقياس جدية هذه المجالس وشرعيتها الأخلاقية. فهو بمثابة “ضمير حي” يُذكّر الصحافيين بأنهم لا يشتغلون في فراغ مهني أو سلطة موازية، بل في خدمة مجتمع له حق المساءلة والتقويم والمشاركة.
وقد وقفت دراسة أنجرتها اللجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة والنشر على أهمية هذا البعد، من خلال رصدها لتجارب دولية رائدة، أكدت كلها ضرورة إشراك المواطنين أو ممثلي المجتمع المدني في قرارات المجالس، بوصفهم أصحاب مصلحة مباشرين في أخلاقيات المهنة وجودة المعلومة.
في مقابل ذلك، يكشف مشروع القانون عن تراجع مقلق في هذا الاتجاه، حيث اقتصر تمثيل ما يمكن أن يُفهم منه “الجمهور” أو “المجتمع”، على ثلاثة أعضاء تعيّنهم مؤسسات رسمية هي: المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
يُمثل هذا التحوّل احتكارا رسميا للتمثيلية، يُفرغ فكرة التنظيم الذاتي من مضمونها الأصلي، ويُقصي هيئات مدنية ومجتمعية كانت حاضرة في التركيبة السابقة، مثل ممثلي هيئات المحامين أو اتحاد كتاب المغرب، والتي تُعتبر، في تجارب عالمية عديدة، امتدادا حقيقيا للضمير المجتمعي داخل المؤسسة التنظيمية.
هذا التحول البنيوي من “الانفتاح المهني المجتمعي” نحو “الاحتكار المؤسساتي الرسمي”، يثير أسئلة جوهرية حول فلسفة القانون الجديد:
هل يُفترض بالمجلس الوطني للصحافة أن يكون سلطة مستقلة ناطقة باسم المجتمع الإعلامي والمجتمع المدني؟ أم مجرد هيئة شبه رسمية تُدار بتزكيات مؤسسات الدولة العليا؟
وما الجدوى من الحديث عن “تنظيم ذاتي مستقل” إذا كان الجمهور، وهو الطرف الأهم، يُستبعد باسم تمثيلية لا تخرج عن جدران السلطة الرسمية؟
ثانيا: تفويت مقنّن
لا يقتصر ما يطرحه المشروع من إشكالات على تغييب الضمير المجتمعي، بل يتعداه إلى ما هو أخطر: تمكين الرأسمال من لعب دور المشرّع الأخلاقي.
فأن تُسند صلاحية تمثيل الناشرين وانتدابهم داخل المجلس إلى “المنظمة المهنية” التي تتمكّن من ترشيح أكبر “الناشرين” في السوق، هو في حقيقته ترجمة حرفية لمنطق الخضوع لسلطة الرأسمال.
إن هذا التمكين القانوني لا يُكافئ المهنية أو الالتزام بأخلاقيات الصحافة، بل يكافئ الشطارة التجارية، والقرب من مصادر الريع الإشهاري، والانحدار من رحم السلطة التي تزوّجها السيد “المال” على سنّة الفساد.
أي أن الرأسمال يتحوّل من عنصر ينبغي مراقبته وتقييد تأثيره داخل الحقل الإعلامي، إلى مرجعية تشريعية تحدّد من يدبّر ومن يُقصى.
وهنا تكمن المفارقة القاتلة: كيف يُعقل أن نمنح كبرى الشركات والمقاولات الإعلامية، وهي بطبيعتها مُهيمنة اقتصاديا ومستفيدة، كليا أو جزئيا، من الريع الإشهاري، سلطة المشاركة في صياغة مدونات الأخلاقيات، والنظر في الخروقات التأديبية، والسهر على تخليق المهنة؟
في أية تجربة دولية حصل أن أُسندت مهمة التخليق المهني إلى منطق السوق ومن يملك أكثر؟
إن الرأسمال، بحسب جميع نظريات الاقتصاد السياسي الكلاسيكية والنقدية، ليس فاعلا أخلاقيا. بل هو “أعور أخلاقيا”، لا يعرف من القيم سوى ما يخدم الربح ويُعظّم الحصص السوقية.
وقديما قيل إن “الرأسمال جبان”، لكنه أيضا، في السياق الإعلامي، جشِع ومنحل أخلاقيا عندما يتعلّق الأمر برأسمال مستثمر في الإعلام ولا يجد من يراقبه أو يردعه.
وها نحن اليوم نُنزّله منزلة المشرّع والمراقب والقاضي، داخل مؤسسة يُفترض أن تكون صمام الأمان ضد طغيانه.
كأننا لا نقرأ حتى قوانيننا. فالمادة 11 من قانون الصحافة والنشر ذاته تحذر من تغوّل التركيز الرأسمالي داخل القطاع، وتنص على ضرورة التصريح بكل من يملك نسبة 30 في المئة أو أكثر داخل مقاولة صحفية، وبأي تقاطع في الملكية بين مؤسستين إعلاميتين.
أي أننا وضعنا حواجز تحول دون حدوث التركيز والاحتكار في مجال الإعلام، لنأتي اليوم ونسلّم المؤسسة المنظمة للقطاع كله إلى الشركات الكبرى العاملة فيه.
ثم إن التجارب الدولية، رغم اختلاف سياقاتها، أوجدت صيغا متقدمة لمراعاة مصالح المؤسسات الكبرى دون تسليمها مفاتيح القرار الأخلاقي.
في أستراليا والسويد وألمانيا، تشارك كبريات المؤسسات الإعلامية في تمويل المجالس، لكنها لا تتمتع بأي امتياز تمثيلي. بل يتم تمثيل الناشرين من خلال منظماتهم المهنية، وليس بناء على حجمهم المالي، مع ضمان توازن واضح مع فئات الصحافيين والمستقلين والمجتمع المدني، وأحيانا تُمنح المؤسسات الكبرى دورا استشاريا تقنيا لا يتعدى البنية التحتية أو الرقمنة.
أما أن يتحول المجلس الوطني للصحافة إلى غرفة صدى للمقاولات الكبرى، فذلك قتل للتعددية، وإعدام لروح التنظيم الذاتي، وتحويل للهيئة من أداة تقويم إلى أداة تكريس للأمر الواقع.
الحجب الإداري.. عودة الرقابة
وإذا كانت هذه الصورة قاتمة بما فيه الكفاية، فإن المادة 54 من مشروع القانون تأتي لتصب الزيت على النار، حيث تُخوّل للمجلس سلطة حجب منبر إعلامي إذا ارتكب ما لم يحدّده هذا النص أصلا.
لا حديث عن القضاء، ولا عن درجات التقاضي، ولا عن ضرورة التناسب أو الرقابة على السلطة. فقط وصف غامض وفضفاض لعقوبة تُعد من أشد أنواع التقييد لحرية التعبير، كما تصنفها أدبيات القانون الدولي.
هذه العقوبة لا تصحّح سلوكا ولا تردّ انحرافا مهنيا، بل تُقصي خطابا من المجال العمومي وتحرم الجمهور من مصدر للمعلومة، وتعاقب الصحافيين وقرّاءهم معا. ولهذا السبب، حرصت الأنظمة الديمقراطية على جعلها بيد القضاء وحده، مع ضمانات مشددة وشروط صارمة.
كل التجارب الدولية التي نُحب أن نحتج بها عندما يتعلق الأمر بالتمويل أو التكنولوجيا، تُجمع على أن المجالس الصحفية لا تملك سلطة الحجب أو الإغلاق. وأقصى ما يمكنها فعله هو نشر قرار توبيخ، أو المطالبة باعتذار علني، أو سحب العضوية من هيئة التنظيم الذاتي.
أما أن نمنح هيئة مهنية صلاحية اقتراح الحجب، فذلك يُفرغ التنظيم الذاتي من مضمونه، ويحوّله إلى غطاء ناعم للرقابة الزجرية.
والمفارقة أن قانون الصحافة والنشر الحالي نفسه لا يجيز الحجب إلا في حالات قصوى ومحددة، تتعلق بالمس بالثوابت الدستورية، والإشادة بالإرهاب، ونشر أخبار زائفة تهدد الأمن العام أو تحرض على الكراهية.
فهل جاء المشروع الجديد ليُوسّع هذا الإطار الخطير؟ وهل نثق في هيئة لم نضمن حتى استقلاليتها التمثيلية، كي نُسند لها سلطة توجيه ضربة الإعدام المهني؟
إن أخطر ما في الأمر أن تُمارس هذه العقوبة بناء على تقييمات رخوة وغامضة ودون تعريف قانوني دقيق، ودون رقابة قضائية فورية.
فمَن يضمن عدم تسخيرها ضد المنابر المستقلة أو الخطابات النقدية؟ وأين الخط الفاصل بين النقد المهني والانحراف التأديبي؟
الله وأصحاب هذا المشروع أعلم!