story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أحلامنا الهاربة

ص ص

غريب هو هذا البرود الذي بتنا نواجه به نكباتنا ونكساتنا.
حتى ونحن نتابع شبابنا يزحف نحو أرضنا المحتلة كي يلوذ بها من ظلمنا وفسادنا، نجد ما يكفي من وقت وقوة وهدوء أعصاب، كي نهذي بالتأويلات الفارغة.
شخصيا لا أستبعد أن يكون وراء النزوح الجماعي لشبان ومراهقين نحو جبال الفنيدق أملا في العبور نحو سبتة، فعل فاعل.
وحتى إن لم يكن، لا شك أن داخل الدولة وخارجها من يجد فيه مآربه وضالته ويركب عليه ويوظفه، تماما كما توظف باقي مآسينا وجراحنا..
لكن هل يغيّر ذلك من واقع الحال؟
حتى إذا كانت هناك أطراف خفية وراء تحريض الشباب على النزوح نحو سبتة، فإن الدلالات الرمزية للحدث تبقى مريعة.
هؤلاء الذين قرروا المخاطرة بحياتهم ومغادرة الوطن لا يهربون فقط من وضع اجتماعي واقتصادي بائس، بل يعبّرون عن إخفاق عميق في الرابط العاطفي والوطني بينهم وبين بلدهم.
وجود تحريض محتمل يضيف بعداً آخر، لكنه لا يُغير من الرمزية الأصلية..
هؤلاء الشباب يشعرون بانفصال تام عن واقع وطنهم، لدرجة أنهم مستعدون للهجرة بأي ثمن، في أي وقت، ونحو أية وجهة.
دلالات حدث 15 شتنبر2024 أكثر من مجرد إعلان فشل تنموي أو خلل اقتصادي.. واستعداد آلاف الشبان والمراهقين للرحيل دون الالتفات إلى بلدهم أو أمهاتهم أو مدرستهم أو حيّهم، يرفع الغطاء عن فجوة خطيرة بين هؤلاء الشباب وفكرة “الوطن” الذي نزعم السعي لبنائه.
هذه الفجوة تعني أن هؤلاء اليافعين لم يعودوا يشعرون بأي انتماء إلى وطنهم..
نزوح 15 شتنبر 2024 عنوان لليأس..
كيف يمكن لشبابٍ يعيشون بين البطالة وانسداد الأفق أن يتمسكوا بأملٍ في وطن لا يقدم لهم سوى الوعود؟
الاقتصاد المغربي لم يعد فقط عاجزًا عن توفير الفرص، بل أصبح سوقا فاسدة، وساحة مفتوحة لبيع الأوهام.
الأرقام لا تكذب، فنسب البطالة تتزايد، وفرص العمل تظل شحيحة أمام الآلاف من طالبي الأمل (الشغل) سنويا.
الشباب الذين يندفعون نحو الفنيدق لا يرون في البحر مجرد معبر، بل هو بالنسبة إليهم مهرب من واقع مميت مهما بدا المرء على قيد الحياة.
المؤسسات التي كان يفترض أن تكون ملاذًا للشباب تحولت إلى أروقة من بيروقراطية عقيمة، وهياكل بل قيمة.
والشباب الذين اتجهوا إلى الفنيدق لم يفروا فقط من الفقر، بل من دولة باتت عاجزة عن تقديم حلول واقعية.
الحلم بالهجرة ليس مجرد هروب من ضائقة اقتصادية، بل هو هروب من مؤسسات لا تعمل، ومن نظام لم يعد يقدم إلا الازدراء والتهميش.
الهجرة الجماعية إلى سبتة، المحتلة يا حسرة، تعني أن السياسة عندنا لم تعد قادرة على احتواء أبسط طموحات أبنائنا.
في بلد تتضاعف فيه الهوة بين الفقراء والأثرياء، يصبح الهروب هو الخيار الوحيد.
ماذا تبقى لهؤلاء الشباب الذين لم يجدوا في مدنهم سوى الفقر والبطالة؟
كيف لهم أن يستمروا في البقاء في وطن لا يفتح أبوابه إلا لأولئك الذين يملكون المال أو النفوذ أو يجمعون بينهما في زواج سفاح؟
عندما يغيب الأمل في التغيير، يصبح الشاب المغربي أقرب إلى المهاجر في وطنه..
في بلادي غريب وبراني!
في بلادي ظلموني!
الهجرة نحو سبتة المحتلة ليست مجرد بحث عن فرصة اقتصادية، أو استجابة لنداء ماكر.. بل هي انعكاس لرغبة الشباب في العثور على بيئة تمنحهم الاستقرار الاجتماعي.
لو لم يكونوا يائسين، بائسين، لما نجح نداء أو إغراء صادر من ذئب تيكتوكي أو فيسبوكي في حملهم على رحلة “مشية بلا رجعة”.
هؤلاء الشبان يشعرون أنهم مهددون، في وطنهم، بعدم الاستقرار، نتيجة البطالة، وغياب الضمانات الاجتماعية، وانعدام أفق واضح لحياتهم في غياب أي مشروع، أو عرض، أو حلم موثوق.
إن السعي للهجرة يعكس شعورًا عميقًا بأن المغرب لا يوفر لأبنائه الحماية الاجتماعية التي يطمحون إليها، سواء تجسّدت في السكن، أو العمل، أو الرعاية الصحية.
هؤلاء الشباب لم يعودوا يرون في وطنهم ضمانة لبناء حياة كريمة، لذلك يغامرون بحياتهم بحثًا عن الأمان في بيئة جديدة قد تكون قاسية لكنها تقدم لهم الأمل في مستقبل أكثر استقرارًا.
سبتة ليست مجرد مدينة سليبة تقع على أطراف المغرب نزعم أننا سنسترجعها..
إنها رمز للأمل المفقود في الداخل..
أمل نزحف إليه مهما تعددت الأكاذيب وتنوّعت الأضاليل.
الشباب الذين يسعون لاقتحام سبتة اليوم، لا يبحثون عن حياة مترفة بقدر ما يسعون إلى الفرار من واقعهم المرير.
وسبتة بالنسبة إليهم مجرد باب للخروج من زنزانة الفقر والضياع..
إنها وعد بحياة ربما تكون أفضل.. بحياة تُحترم فيها حقوقهم.
رمزية سبتة تعكس فكرة أن الحدود الجغرافية ليست فقط بين دولتين، أو قارتين، بل بين عالمين: عالم اللامبالاة التي نعيشها في المغرب، حيث الفرص معدومة والأبواب مغلقة؛ وعالم أوروبا الذي، رغم تحدياته، يقدم وعدًا بحياة أكثر عدلاً وأملاً.
ومن لاحقناهم هذا الأحد وهم يتسلّقون الجبال نحو حدود المحتلّ، ليسوا أرقاما، ولا قطيعا ساقته نداءات مشبوهة صادرة من غياهب الإنترنت، بل هي أحلامنا تهرب منا.
قالها محمد الماغوط في كتابه الشهير “سأخون وطني” قبل عقود:
“…
من الغباء أن أدافع عن وطن لا أملك فيه بيتاً أو قوت يومي.
من الغباء أن أضحي بنفسي ليعيش أطفالي من بعدي مشرّدين.
من العار أن أترك زوجتي فريسة للكلاب من بعدي.
الوطن هو حيث تتوفر مُقوّمات الحياة لا مُسبّبات الموت”.