story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

آخر الشامخين

ص ص

من أكثر الصباحات حزنا على الإطلاق أن تبدأ يومك صبيحة هذا الثلاثاء 06 فبراير 2024، برسالة تحمل نعي واحد من أكبر الشاهدين على قرن المغرب الماضي، الراحل محمد ينسعيد آيت يدر.
صباح حزين جدا لأنه صباح بدون شاهد على ماضينا، يمكنه أن يشحن حاضرنا بالأمل في المستقبل.
لن يكون بيننا بعد اليوم صادق نرى في عينيه إرادة الانسان المغربي الأصيل المحب للحياة والحرية. ولن يكون بيننا بعد اليوم رجل نشأ يتيم الأم، لكنه استقبل الزعامة بحنوّ الأب الرؤوف، وجلَد المقاوم الأمازيغي الصنديد، وعين السياسي المتبصّر ومثقف الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة.
رحل عنا هذا الصباح جسر معلق بلا حبال، ربط طيلة القرن الذي عاشه بيننا كل ما تمزق فينا. ربط الماضي بالحاضر، الشيوخ بالشباب، التقليد بالتحديث، السهل بالجبل، والعربية بالأمازيغية…
آيت ايدر هو شاهدنا الوحيد الذي عبر بنجاح من جيش التحرير إلى نضال الحرية. حمل السلاح ضد الاستعمار في الجبل والحضر، وآمن بأن الوطن أكثر من رقعة أرض وعشيرة، بل كيان يستحق الروح والدم. وحين حصل الوطنيون المفاوضون على استقلال ناقص، لم يطل به الأمد ليحمل بندقيته ويتجه جنوبا مصرا على تحرير الصحراء، ويحارب حتى آخر فرصة، ويعود إلينا شاهدا على الحقيقة وكاشفا لما أصاب المقاومين من خيانات وغدر، وراويا قصة هجوم “المكنسة” الذي قضى على جيش تحرير الجنوب واضطرنا إلى عقود أخرى من مناورة الاستعمار وذيوله.
خرج بنسعيد، الحافظ للقرآن والدارس لعلوم الدين صغيرا مثلما درس كتب الفلاسفة والمنظّرين كبيرا، من جبهة القتال سالما وخاض جبهة النضال صادقا. كما لو نذر نفسه للوطن. خرج من أتون معركة ما بعد الاستقلال التي أسالت الدماء وفتحت الجراح، فاضطر للمنفى واغترب في الجزائر وفرنسا، لكنه لم يتاجر ولم يساوم حتى أتاه عفو الملك الحسن الثاني، فلم يكابر ولم يعاند، بل عاد وهو أصيل لم يتغير.
عاد بنسعيد ولم يفرط في كرامته ولا مبادئه. عاد ليستأنف معركته مؤسسا منظمة العمل الديمقراطي أوائل الثمانينيات، وحاملا أصوات منطقته إلى البرلمان، فكان جسرا بين موقف الحرية والانعتاق والبناء المؤسساتي الذي تطلب منه قرابة ربع قرن قضاه داخل البرلمان، رافضا الانحناء لتقبيل يد الملك، إصرارا منه على فهمه الخاص لكرامة دافع عنه حتى والملك يستوقفه خلال استقبال رسمي بداية الثمانينيات، ليسأله باستنكار “من أنت؟”، فلم يكن الجواب سوى “أنا بنسعيد” قبل أن ينصرف ليقاوم ضغوط وزير الداخلية إدريس البصري لحمله على الاعتذار والتراجع عن الموقف..
“أنا ماشي شايط” قال الرجل ثم انصرف ليسجل اسمه كأول سياسي مغربي يجرؤ على ذكر اسم معتقل تازمامارت داخل البرلمان، مواجها عواصف التكذيب والتخوين.
عاش بنسعيد آيت ايدر عاشقا للحرية ومدافعا عن الصحافة، وأسس ولو متأخرا مقارنة بصحف ما بعد الاستقلال الأخرى، واحدة من أكثر الصحف الوطنية مرجعية وتفريخا للأقلام والكفاءات العلمية والأدبية، صحيفة “أنوال” وما أدراك ما دلالة “أنوال” في قاموس المقاومة والصمود والوحدة بين المغاربة من الشمال إلى الجنوب.
وكأي جبل راسخ لا تهزه سيول ولا عواصف، شارك بنسعيد ايت ايدر في تأسيس الكتلة الديمقراطية، مؤلفا بين قناعاته الثورية، وايمانه بالعمل على التغيير والإصلاح من داخل المؤسسات إلى جانب باقي الوطنيين والمناضلين.
صمد بنسعيد أمام الضربات والانكسارات التي هزت الكتلة وأضعفت المنظمة وأتت على الجريدة، لكنه كان الوجهة والملاذ حين برز يسار جديد، فمنحه بيتا وألّف بين القلوب في حزب أراده اشتراكيا وموحدا، حتى إذا جاء الربيع “العربي” وجده الشبان أكثر منهم شبابا، ففتح لهم مقر حزبه وآواهم عندما طاردتهم هراوات السلطة فلم يكن لها بد من إخراجهم معتقلين من قلب مقر الحزب في الدار البيضاء.
مات الجسر الذي كان يحيي فينا تلك الوحدة التي تجمع مغربا مركبا ومتعددا، ويبقي فينا ذلك الأمل بالتئام الجروح ومعاودة النهوض. مات المرجع الأعلى في معمعة الصحراء، الذي سألته بعد رحيل الزعيم المعمّر لجبهة البوليساريو، محمد عبد العزيز، عن قصة ما ورد في مذكراته حول هؤلاء الأطفال الذين جلبهم جيش التحرير من أنحاء الصحراء ليلقح بهم أرجاء المغرب الأخرى وربط أوصال المغرب ثقافيا…
“كنا نسعى إلى إدماجهم في النسيج الاجتماعي”، يقول بنسعيد، موضحا أن عددا من هؤلاء الأطفال جيء بهم من الساقية الحمراء والداخلة وآيت باعمران، “بلغ مجموعهم حوالي 380 طفل، منهم 70 ينحدرون من أقاليم الصحراء الجنوبية، وقمنا بتسجيلهم في المدارس المحمدية بالدار البيضاء. هناك اتفقنا مع مديرها ومع العامل حينها أحمد بركاش، كي يقوم بالعناية بهم، وخصصنا لهم بيتا للإقامة يسمى دار التوزاني، ومنهم من تابع دراسته إلى نهايتها ومنهم من توقف حيث لم تكن لنا الإمكانيات الكافية لمتابعة هذا الأمر…”.
التحق عدد من هؤلاء الشبان بالجامعة، وفي أواخر الستينيات فكّر بعضهم في الذهاب إلى الصحراء وممارسة المقاومة وتحريرها من إسبانيا، وعلى رأسهم الوالي مصطفى السيد، فاتصلوا بعدد من السياسيين والتحق بعضهم بصفوف الأحزاب الوطنية، “وهو ما جرّ عليهم غضب الأجهزة التي راحت تحاربهم، خاصة بعد قيامهم بعدد من المظاهرات، خاصة في مدينة طانطان، ومن ثم شرع بعضهم في الهروب نحو وجهات مختلفة، منها موريتانيا والجزائر، فالتقطهم الأعداء واستفادوا من الأخطاء التي ارتكبها المغرب”.
أين نجد بعد رحيل بنسعيد من يدوي لنا هذه القصة بعيدا عن أقصاف التخوين والاتهام بالاسترزاق؟
رحمك الله يا آخر الشامخين.