CNSS.. قرصنة الثقة

عملية الاختراق الفاضح لمعطيات ملايين المغاربة الشخصية التي يعتبر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مستأمنا عليها، هي واحدة من اللحظات التي تكون فارقة في مسار الشعوب، لا لأنها تؤرخ لكارثة، بل لأنها تكشف زيف الشعارات وتضع المسؤولين عراة أمام مرآة الواقع.
ما حدث مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ليس مجرد اختراق سيبراني عابر، بل هو زلزال مؤسساتي وسيادي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
لنبدأ من الصورة الأكثر فظاعة: ملايين المغاربة وجدوا بياناتهم الحساسة، من أرقام بطائقهم الوطنية، إلى أجورهم، إلى وضعهم الاجتماعي، معروضة في قنوات تواصل يديرها قراصنة يتباهون بما لديهم.
وبدل أن تتحرّك الدولة فورا ببلاغ رسمي من أعلى مستوى، أو ظهور علني لأحد المسؤولين لمخاطبة المغاربة، خرجت الوزارة المعنية بتوضيح مرتبط، ثم تبعها الصندوق ببيان متأخر، وبلغات تهديدية، يحذر فيه المواطنين من مشاركة التسريبات، في الوقت الذي يعتبر هذا المواطن أحقّ بالتهديد بل واللجوء إلى القضاء ضد هذه المؤسسة.
منطق الأمور يقول إن من يُسرَق منه شيء، يطلب الدعم والحماية والتضامن، ولا يتوعد الضحايا. لكن في المغرب الرسمي، حيث تتقاطع البيروقراطية مع قلة الكفاءة، صار المواطن هو المُذنب في كل الحالات، ويدفع الثمن في جميع الاتجاهات.
كل من تابع هذا الملف منذ بدايته، وأنصت إلى المختصين، يدرك أن الاختراق لم يكن معقدا، ولا نتيجة تقنية فائقة.
الهجوم، وفق ما تم تسريبه، نفذه شاب عشريني، بمعية شركاء أو بمفرده، لا يهم، من ألمانيا، بسبب خلل بسيط في بروتوكول الأمان. وكلّما قامت جهة مسؤولة، يفترض أن وراءها جيش من الخبراء والمهندسين والأطر، لتنبس ببنت شفة، صفعهم القرصان باستهداف مباشر وأكثر دقة.
العملية تكشف أننا في مؤسساتنا العمومية، ما زلنا نُخزن بيانات الملايين من المواطنين، على أنظمة تشغيل هشة، وفي أجهزة بلا حماية. وعندما يحدث اختراق وتضيع الحقوق والمصالح، نخرج لنهدد المواطنين.
هل هذه دولة تحترم معطيات مواطنيها؟ هل هذه بنية يُمكن أن نضع فيها مشروع “تعميم الحماية الاجتماعية”؟ كيف سنطمئن الناس على خصوصيتهم وأمنهم الرقمي، ونحن لم نؤمّن حتى قاعدة بيانات مؤسسة بحجم CNSS؟ وكيف سنقنع المستثمرين الأجانب بوضع ثقتهم في منظومتنا الإدارية والتقنية ونحن نُخترق ونُستباح بهذه الطريقة؟
نسمع منذ سنوات جعجعة حول “التحول الرقمي”، وتوظيف “الذكاء الاصطناعي”، وخطة “مغرب رقمي 2030″… لكن الواقع يقول إن كل هذا مجرد تغليف فاخر لفراغ مؤسساتي مروع.
إننا عراة ومجرّدون من أية حماية أو غطاء، سواء كان سياسيا أو تقنيا أو قانونيا.
ونحن نتفرّج على فضيحتنا الكبيرة، لم يكن أحد يعرف من المسؤول فعلا عن الأمن السيبراني، هل هي الوزارة؟ أم الصندوق؟ أم الجهات السيادية والأمنية؟ ومن يُحاسب عند وقوع الخلل؟
لا جواب.
الخطير في الأمر هو أن هذه المعطيات، حتى إن لم تُنشر كلها الآن، فهي أصبحت في متناول جهات ربما لن تستخدمها للإحراج، بل للتجسس، للابتزاز، أو لإرباك البلاد في لحظات حساسة.
هذه مسألة سيادية، وليست مجرد واقعة تقنية.
ومن تابع بلاغ CNSS يدرك أننا لسنا فقط أمام خلل في الأمن المعلوماتي، بل فضيحة في هندسة العقل الإداري والسياسي المغربي.
بلاغ كهذا لا يُكتب في لحظة أزمة، بل في لحظة جهل بمعناها. مؤسسة عمومية بحجم CNSS، يفترض أنها تدير واحدة من أكثر قواعد البيانات حساسية في البلد، تخرج ببلاغ متردد وخال من الأرقام والتفاصيل، ولا يحدد الضرر، ولا يُخبرنا بحجمه، ولا يوجه المتضررين، بل يهددهم بالملاحقة إن هم تجرأوا على تداوله!
نحن لا نواجه فقط مؤسسة مخترَقة، بل حكومة ونخبة إدارية عاجزة عن إدراك طبيعة العصر الذي نعيش فيه. عصر تُقاس فيه الثقة بالمعلومة، وتُدار فيه الأزمات بالتواصل السريع والدقيق والمسؤول، لا بلغة المواربة والتهديد.
هذه ليست فقط ثغرة في نظام حماية البيانات. إنها ثغرة في النموذج السياسي والإداري نفسه. النموذج الذي يراكم الصلاحيات ويتهرب من المسؤوليات، يحرص على الامتيازات ويتهرب من الاعتراف بالأخطاء.
النموذج الذي، حين يهتز، يوجّه اللوم للجمهور لا لنفسه، ويهدد الناس بدلا من طمأنتهم.
كان يُفترض أن تُعقد ندوة صحافية، أن يظهر الوزير الوصي، أن يخرج المدير العام للحديث، أن تِحدث خلية أزمة تضم المؤسسات والهيئات المعنية، أن تُطلق حملة توعية لحماية المتضررين…
لكن لا شيء من كل ذلك حدث.
بلاغات باردة، ولغات مبهمة، وتهديد للناس، وتبريرات لا تقنع أحدا.
ما الرسالة التي نبعثها بهذا الشكل؟
أننا لا نحترم المواطن، وأن المعطى الشخصي لا يعني لنا شيئا، وأن الدولة لا تحمي أحدا.
نريد أجوبة صريحة: من يتحمل مسؤولية هذا الاختراق؟ كم حجم الضرر الحقيقي؟ وهل نحن دولة تحمي بيانات مواطنيها أم أننا مجرد “خدمة” في يد مقاولات لا نعرف من يسيرها؟
ما حصل في CNSS ليس حادثا معزولا، بل هو تجسيد لثقافة الاستهتار المؤسسي المتفشية في مفاصل الدولة. ونحن، كمغاربة، لا نطلب معجزات، بل نطلب الاحترام، والحماية، والمحاسبة، والشعور بأن هناك دولة وحكومة ومؤسسات تحمي السيادة والحقوق.
وإن لم تتحقق هذه المطالب الثلاث، فسنجد أنفسنا، يوما ما، لا نناقش تسريب رواتب أو أرقام بطائق، بل خرائط بنية الدولة، وهويات مسؤوليها، وشفرات مؤسساتها.
يومها لن تنفع البلاغات، ولا الندوات، ولا التهديد والوعيد.