أولمبياد 1992.. التظاهرة الرياضية التي غيرت وجه مدينة برشلونة
تمتلك الرياضة القدرة على إحداث تغييرات ملموسة في عدة مجالات، وهي بمثابة مناسبات عامة تشجع المجتمع على الحركة والنشاط، إضافة إلى قدرتها على تغيير نظرة العالم إلى الرقعة الجغرافية التي تحتضنها، حيث يُجمع الخبراء والمختصون في مجال الرياضة على أن احتضان الدول للفعاليات الرياضية الكبرى مثل الألعاب الأولمبية وكأس العالم، يعود بفوائد جمّة على الدولة المستضيفة على جميع الأصعدة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، خاصة وأن الرياضة قد تحوّلت من مجرد هواية إلى صناعة يُستثمر فيها، وتحقّق أرباحًا طائلة.
وحقّق الاستثمار في مجال الرياضة قفزة كبيرة مع بداية تسعينيات القرن الماضي، وأصبحت المناسبات الرياضية الكبرى أحد أركان صناعة الرياضة. وينعكس حجم الاستثمار الكبير على الدولة المستضيفة للحدث الرياضي، من حيث تطوير البنية التحتية، فهي لا تبني الملاعب فقط، وإنما تبني شبكات طرق وشبكات مواصلات، وتطوّر في شبكة الاتصالات والإنترنت، وتمنح هامشا كبيرا لنمو اقتصادها ونشر صورتها الإيجابية في العالم لتعزز بها أرقام النشاط السياحي وجذب اهتمام المستثمرين.
وكانت أولمبياد برشلونة 92 أول تظاهرة رياضية كبرى لفتت انتباه العالم إلى الفوائد الإقتصادية والإجتماعية والحضارية التي تأتي من استضافة هذه المنافسات الضخمة، حيث استفادت المدينة الإسبانية بشكل سريع من عائدات مالية أكبر بثلاث مرات من تكلفتها، بل وتمكنت في وقت لاحق من الحفاظ على زخم النمو الذي منحته إياها تلك الألعاب، وعززت برشلونة بشكل كبير قطاع السياحة والمؤتمرات والأحداث الرياضية، وأصبحت معيارًا للمدن ذات الطبيعة الإبداعية، حيث تجتذب قدرًا كبيرًا من الاستثمار الأجنبي وتستضيف عددًا لا يحصى من المقرات والوفود الأوروبية، خاصة في مجال تكنولوجيا.
ثورة ضد البطالة
في البداية كان ترشيح برشلونة لاستضافة الأولمبياد يعني دفعة حقيقية لإيجاد مناصب الشغل الموسمية والقارة، وبالفعل كان لها مفعول السحر، حيث انخفض عدد العاطلين عن العمل من أكثر من 125 ألف شخص في العام الذي أعلن فيه عن استضافة الألعاب. وكانت معدلات البطالة في أسبانيا أكثر من 20%، وبعد الألعاب الأولمبية، لم يصل هذا المعدل في برشلونة إلا إلى 10%. حيث أدى الإعداد والتنفيذ للألعاب الأولمبية إلى خلق حوالي 35000 فرصة عمل قار سنويًا في كاطالونيا.
وفي الوقت نفسه، كانت إحدى السمات الإضافية لألعاب 1992 في برشلونة هي اللامركزية الجغرافية في توزيع العديد من الملاعب الأولمبية الفرعية، حيث تم بناء 60% من الملاعب والتجهيزات الرياضية في البلدات المجاورة أو المناطق الأخرى في إقليم كاطالونيا وهو ما سمح بتشغيل الآلاف من اليد العاملة في البناء والبستنة والخدمات الفندقية .
ومن المنطقي أن معظم هذا النشاط حدث في مجال البناء، ليس فقط بسبب إنشاء البنى التحتية المختلفة مثل الإقامات السكنية والقرية الأولمبية وإعادة تأهيل المرافق الرياضية. وانتعشت سوق الإسكان، ولكن هذا الزخم استمر بعد انتهاء المنافسة، وفي السنوات اللاحقة، استمرت الأرقام الخاصة بكل المؤشرات في تحطيم الأرقام القياسية للعام السابق، سواء في تشغيل العمالة أو الاستثمار أو الدخل الفردي.
التعاون بين القطاعين العام والخاص
وكانت أحد الأسرار العظيمة لما يسمى بنموذج برشلونة 92 هو التعاون بين رأس المال العام والخاص. واستمر الحفاظ على هذه الفلسفة حتى يومنا هذا. حيث أن العديد من المبادرات الناجحة التي تم تنفيذها في المدينة ولدت من هذا التعاون. على سبيل المثال، تم الترويج للأعمال الأولمبية وتمويلها بنسبة 36.8% من خلال مبادرات خاصة. علاوة على ذلك، تم تنفيذ ثلث هذه الأعمال باستثمارات من شركات أو صناديق أجنبية. وتركزت الاستثمارات الخاصة في المقام الأول في مجال الإسكان والفنادق ومراكز الأعمال.
وفي النهاية، أدت طريقة العمل هذه التي حدثت خلال السنوات الست من التحضير لأولمبياد برشلونة 92، إلى ترسيخ فلسفة عمل جديدة، وتحول واضح للمدينة وتغييرات عميقة في الهيكل الاقتصادي. . وبعد انتهاء الألعاب الأولمبية، وجدت برشلونة نفسها تتمتع برأس مال أكبر، وكان قد استقر فيها عدد هائل من الشركات والمقاولات على استعداد للاستثمار في المدينة والمناطق المحيطة بها، وتمكن الاقتصاد المحلي من التعمق في قطاع التعليم العالي، وخاصة في المجالات الدقيقة للتكنولوجيا والاتصالات، وبشكل عام، تطورت في المدينة بيئة ذات قدرة تنافسية أكبر، لتضاهي مدنًا عالمية أخرى كانت تسبق برشلونة بمراتب عديدة.
مدينة المشاريع الحديثة
ساهمت استضافة أولمبياد سنة 1992 في تطور مستوى مدينة برشلونة والمناطق المحيطة بها في درجة جاذبية الأعمال التي نشأت أثناء إقامة الألعاب، تطوير درجة الثقة في مناخ الإستثمار من خلال تفضيل الشركات الاستقرار في كطالونيا، بسبب توفر الخدمات الإدارية واليد العاملة والسوق والقدرة التنافسية.
وتحسنت بشكل ملحوظ أرباحها خلال السنوات الأولى بعد الألعاب، حتى تحولت مدينة برشلونة سنة 2012، كانت برشلونة إلى واحدة من أهم خمس مدن في أوروبا وفقًا لتقرير المقارنة المعيارية لتسويق المدن الأوروبية.
وهذا هو أحد الجوانب الأساسية التي سمحت للمدينة بأن تصبح أيضا واحدة من العواصم التكنولوجية في أوروبا، حيث تم إنشاء مبادرات مثل 22@، وهو حي أنشئت فيه مقرات متعددة الجنسيات ليشكل أهم مركز في جنوب أوروبا، يستقطب كفاءات البحث والتطوير للشركات من جميع الأنواع.
تضاعف أرقام السياحة
الصورة الجيدة وجاذبية مدينة برشلونة التي خلفتها الألعاب الأولمبية، ساهمت في أن تصبح واحدة من الأماكن الرئيسية في العالم لتنظيم الفعاليات والمعارض. وربما كان أعظم دليل على هذا الاتجاه هو القرار الذي اتخذه المؤتمر العالمي للهواتف المحمولة بإقامة معرضه التكنولوجي الضخم في المدينة.
كما شهدت السياحة المرتبطة بهذا النوع من الأنشطة زيادة كبيرة، والتي على الرغم من تعرضها لبعض المطبات بسبب بعض الأحداث الطارئة، إلا أنها لم تتوقف عن النمو حتى يومنا هذا.
لكن القطاع الذي استفاد بشكل ملحوظ خلال هذه السنوات 32 بعد الأولمبياد كانت السياحة. ففي عام 1990، كانت برشلونة لا تعرف توافد سوى مليوني سائح سنويا، لكن هذا الرقم وصل في سنة 2012، إلى أكثر من سبعة ملايين. وحاليا في سنة 2024 تجاوز 15.5 مليونًا.
هذا الإرتفاع الصاروخي في عدد السياح، يوازيه تطوير متزايد للبنيات السياحية، حيث ارتفعت عدد الوحدات الفندقية المصنفة والمنتجعات ودور الإقامة في كل مناطق كطالونيا، وساهمت الألعاب أيضا في ازدهار قطاع امتلاك السفن السياحية من طرف الفئات الغنية من مختلف الجنسيات، كما أصبحت برشلونة ومعها كطالونيا واحدة من الوجهات السياحية الرئيسية للأشخاص المهتمين بممارسة الرياضة. حتى أن تطوير المراكز الرياضية عالية الجودة مثل المركز الموجود في “سانت كوجات” جعل من المناطق الكطلانية واحدة من تلك التي توفر أعظم عوامل الجذب لنخبة الرياضيين لإقامة المعسكرات التدريبية والإستعداد المثالي للمنافسات الرياضية الكبرى.
الرياضة كنشاط اقتصادي
ويرجع ذلك أيضًا إلى الدفعة التي قدمتها أولمبياد برشلونة 92 للرياضة، ليس فقط في ممارستها، ولكن أيضًا كنشاط اقتصادي. فكاطالونيا حاليا هي أكبر مناطق أوروبا احتضانا للشركات الرياضية. حيث هناك ما يقرب من 1400 شركة مرتبطة بالقطاع الرياضي، ويبلغ حجم مبيعاتها أكثر من 6500 مليون يورو وتوظف أكثر من 30000 شخص.
وفي الوقت الحالي، أصبحت برشلونة أيضًا رائدة في الجمع بين الرياضة والتكنولوجيا، سواء فيما يتعلق بتحليل ومراقبة الأداء البدني، وكذلك تطبيق التقنيات الجديدة في إدارة الأحداث الرياضية وبثها.
إن الابتكار الذي ينشأ من تطبيق التكنولوجيا على عالم الرياضة، مثل ما يعرف حاليا بالرياضات الإلكترونية، والمسابقات الافتراضية، هو مجال تفوقت فيه مدينة برشلونة بشكل كبير، حيث تم تجديد “قصر الرياضة” القديم هذه السنة لاستضافة أحداث الرياضات الإلكترونية، وسيوفر أيضًا مساحة لمختلف الشركات الناشئة التي تنشط عبر الجمع بين الرياضة والتكنولوجيا، وسيسمح بإنشاء 450 فرصة عمل وزيارة 200000 متفرج سنويًا.