story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غنيمتنا الفرنسية

ص ص

كما كان متوقعا، ودون تأخير، ورغم الأهمية التي ينطوي عليها الخطاب الذي سيلقيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام البرلمان بضع ساعات بعد كتابة هذه السطور؛ كشفت زيارة الدولة التي يقوم بها منذ أمس الإثنين 28 أكتوبر 2024 رئيس الجمهورية الفرنسية للمغرب، عن المنعطف النوعي الذي ستعرفه علاقات البلدين، من خلال ترسيم وتوثيق ما تم الإعلان عنه خلال الشهور الماضية من تحوّل في الموقف الفرنسي من قضية الصحراء.

النقطة السابعة والأخيرة من الإعلان المغربي الفرنسي المشترك الذي صدر في نهاية مراسيم الاستقبال الرسمي والشعبي الكبير الذي أقيم على شرف ماكرون، وحفل توقيع 22 اتفاقية جديدة بين البلدين، تقول كل شيء وتلخّص ما ستحتفظ به سجلات التاريخ حول هذا اللقاء.

الفقرة السابعة من هذا الإعلان المشترك، تقول إن قائدا البلدين يؤكدان أن مجال تطبيق “الشراكة الاستثنائية الوطيدة” بين المغرب وفرنسا، والمعلنة بمناسبة هذه الزيارة، يشمل أوسع نطاق ترابي ممكن.

وتوثّق الفقرة ما تم إعلانه سابقا عبر رسالة من الرئيس الفرنسي للملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 25 لتربّعه على العرش، والتي يقول فيها الرئيس الفرنسي: “أعتبر أن حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يندرجان في إطار السيادة المغربية. […] بالنسبة لفرنسا، فإن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يعد الإطار الذي يجب من خلاله حل هذه القضية”.

هذا هو مربط الفرس، وما سيجعل العلاقات المغربية الفرنسية بعد اليوم مختلفة عن كل ما سبق، حيث باتت الدولة التي فوّض لها أقوياء العالم في مؤتمر الجزيرة الخضراء 1906، ممارسة النفوذ في المغرب، والذي سيتخذ شكل معاهدة للحماية؛ (باتت هذه الدولة)، تعتبر منح الحكم الذاتي للصحراء “الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي، عادل، مستدام، ومتفاوض بشأنه، طبقاً لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”.

هناك ميل طبيعي عندنا يحملنا على اتخاذ المواقف الحدية والمتطرفة، فإما محبّون لفرنسا ومتمسّحون بأعتابها، أو مناهضون كارهون متعصّبون.. بينما علاقات الدول الخارجية تقوم، إلى جانب تصريف الاختيارات الكبرى والأساسية للأمم والمجتمعات، على جلب المصالح ودفع الأخطار.

الدارس الموضوعي والهادئ للأوضاع السياسية، الداخلية والخارجية للمغرب على مدى القرون الأربعة الماضية على الأقل، سيدرك دون أدنى عناء أن أكبر عنصر مؤثر في أحوال المغرب هو علاقاته مع فرنسا، سواء سلبيا أو إيجابيا.

والنقد الذي أوجّهه شخصيا للحضور الفرنسي في المغرب، يتعلّق بتلك الحالة من الخضوع والتبعية والاستلاب التي تريد بعض النخب الانتهازية لدينا، إعطاءها لهذه العلاقات. يحدث الضرر عندما نصبح في موقف سلبي، يتفاعل في أحسن الأحوال لكنه لا يفعل. فنصبح مجرّد حديقة خلفية تزرع فيها فرنسا بذور التبعية الاقتصادية والثقافية واللغوية وبالتالي السياسية.

لهذا عندما يتم تنشيط أدوات الفعل السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، ويحصل المغرب على مثل هذا الاعتراف الذي جاءت دولة فرنسا عن بكرة أبيها لتعبّر عنه اليوم، بالمصالح والطموحات المغربية، وعلى رأسها طموح استعادة الوحدة الترابية الكاملة والتخلّص من ثقل المشروع الانفصالي في الصحراء، فإننا نصبح أمام فرصة حقيقية، يجوز معها استحضار العبارة الشهيرة المنسوبة للمسرحي الجزائري كاتب ياسين: الفرنسية غنيمة حرب.

نعم لا يمكن لمغربي حرّ أن يقبل لبلاده بدور الذيل التابع الذي تحاول بعض النخب الانتهازية لفرضه علينا في علاقتنا بفرنسا، حتى يستمر وضعها المخملي وتستمر منافعها؛ لكن مقاومة هكذا خيار لا يمكن أن يوقعنا في مغالاة لا جدوى منها.

للثقافة الفرنسية الكثير مما يمكننا استلهامه وتعلّمه واكتسابه لتقليص الفارق الذي يفصلنا عن قاطرة الحضارة الإنسانية المعاصرة.. الانفتاح على العوالم الحضارية التي تجرّ قطاع البشرية حاليا، من الصين إلى أمريكا، طموح مشروع، بل واجب، لكن التفكير بمنطق الممكن والواقعي، يقودنا إلى الاعتراف بأن الكثير من مفاتيح التطوّر والتقدّم بمقياس المغرب وإمكانياته، ما زالت فرنسية.

من يعتبر أن النظام السياسي المغربي الحالي عائق أمام أحلام المغاربة في التقدّم والازدهار، يمكنه أن يحلّق في عوالم الحلم ويحطّ كالنحلة فوق زهور الشرق والغرب، من الصين إلى أمريكا.. لا قيد ولا عتب عليه؛ لكن من يعتبر، مثلي، أن النظام السياسي الحالي هو ضرورة لبقاء المغرب، الدولة الأمة، ولصموده أمام تحديات الحاضر والمستقبل، عليه أن يعمل ما استطاع على دفع هذا النظام نحو التحديث بمعانيه المختلفة، لكنه ملزم باستحضار طبيعة هذا النظام، وتحالفاته وارتباطاته، وهنا نجد بالضرورة حضورا قويا لفرنسا.

من لا يعجبه التعبير المجرّد ونظري، ليس مطالبا بالضرورة بالغوص في روايات الارتباطات الغامضة بين الدولتين العميقتين في المغرب وفرنسا، بل يمكنه أن يتأمل فقط معطيات من قبيل وجود ما بين مليون ومليوني مغربي يعيشون في فرنسا، وأكثر من خمسين ألف فرنسي يعيشون في المغرب، أكثر من نصفهم مزدوجو الجنسية، وقرابة ألف فرع لشركات فرنسية يعمل في المغرب، وقسم كبير من النخبة التقنية والعلمية المغربية يتخرّج سنويا من فرنسا…

لهذا وإلى جانب طموح النهوض بالعلم والمعرفة الوطنيين باللغتين الوطنيتين، العربية والأمازيغية، وإغناء المنظومة الثقافية أكثر بروافد تمتح من المصادر الإنجليزية والإسبانية والصينية… ما زال هناك الكثير مما يمكن تحقيقه مع فرنسا وبالفرنسية.

يكفي أننا نجلس بشكل شبه يومي أمام الشاشات لتتبع أخبار العالم وفهم أحداثه عبر القنوات والصحف الفرنسية.. يكفي أننا حصلنا على القسم الأكبر من المعطيات المتعلقة بزيارة الرئيس الفرنسي لبلادنا من المصادر الفرنسية.. يكفي أن فرنسا هذه التي ينتشي البعض بترديد مؤشرات تراجعها واندحارها مقارنة بالقوى الدولية العظمى، ما زالت تسبقنا بعقود طويلة إن لم يكن بقرون.

وبكل البراغماتية الممكنة، دعوني أقول إن فرنسا المتقهقرة والمتراجعة، أفيد وأنفع لنا من فرنسا القوية والصاعدة، لأنها تصبح أقرب إلى منطق الندية وأبعد عن منطق الاستعلاء. والدليل أننا نحصل منها اليوم، في ملف الصحراء، على ما عجزنا قبل نصف قرن على انتزاع ولو واحد في المئة منه…

تابعوا حواري الأخير مع المؤرخ الجيلالي العدناني، واقرؤوا كتابه حول “الصحراء في محك الاستعمار” وما يضمّه من وثائق ثمينة كلها من الأرشيف الفرنسي، لو منحتنا إياها فرنسا عام 1975 لما كنا أصلا في حاجة إلى رأي محكمة العدل الدولية حول ملاءمة مفهوم “الأرض الخلاء” لوصف أراضينا الصحراوية.