story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

هل ما يزال المجرى ثابتا؟

ص ص

بعدما انتهيت من قراءة كتاب ‘مربي الكلمات’، الذي أصدره الأديب عبد الكريم جويطي قبل أسابيع، تبادر إلى ذهني هذا السؤال: هل ما يزال المجرى الذي ظل يشغل بال الأديب المغربي الراحل إدمون عمران المليح ثابتا؟ طرحت هذا السؤال لعدة اعتبارات نابعة من أبعاد هذا الانشغال العميق والوعي الراسخ عند صاحب ‘المجرى الثابت’، أدبيا وفكريا ونظريا أولا، وسياسيا وأيديولوجيا ثانيا. وهي اعتبارات ظل يطرحها الاحتكاك بأعمال الأديب الراحل، لكنها تغتني اليوم بقراءة هذا الكتاب المهم ‘مربي الكلمات’، الذي أراده جويطي استعادة لـ”هذا الوجه الاستثنائي في ثقافتنا الحديثة،” كما قال الأديب محمد الأشعري في تقديمه.

أقدم هنا هذه الاعتبارات تمثيلا، لا حصرا. يتمثل الاعتبار الأول في تأكيد المليح الدائم على أن الهوية المغربية هي هوية متعددة ومركبة، لكنها جامعة ومتناسجة. وانطلاقا من هذا الإيمان المتجذر، ظل المليح يتحاشى أن يقدم نفسه، أو غيره، بوصفه يهوديا، أو أمازيغيا، أو عربيا، بل كان يصر على أن يعرّفه نفسه، وغيره أيضا، بأنه مغربي حباه القدر باليهودية دينا، وبالدارجة لغة تواصل يومي، وبالفرنسية لغة كتابة وإبداع، وبالماركسية مذهبا سياسيا ينتصر للضعفاء والمظلومين، الخ.

ويقوم الاعتبار الثاني على اختيار المليح الانتصار للحقيقة. لا أحد بمقدوره اليوم أن ينفي أن المليح ظل مناصرا للقضية الفلسطينية، منددا بجرائم الكيان الصهيوني وإباداته المتكررة في حق الفلسطينيين، ومستنكرا تحيز الغرب ومساعداته المتعددة على تقوية شوكته وتوسيع احتلالته وهيمنته على فلسطين. كما أن المليحي لم يخفِ انتقاداته اللاذعة تهجير اليهود من المغرب، بعيد الحرب العالمية الثانية، في إطار مؤامرة صهيونية دولية كانت الغاية منها ذبح شعب آخر وتهجيره من أرضه، قصد توطين اليهود بدلا منهم. وبالطبع، كانت مواقفه من الإمبريالية الغربية وممارساته المشينة، ومن تكريس مشاريعها في المغرب، أفضل تعبير عن هذا الانتصار للحقيقة.

أما الاعتبار الثالث، فهو المنفى الذي يمكن أن نعدّه أيضا شكلا من أشكال الإيمان بالحقيقة والانتصار لها. صحيح أن المليح عاش تجربة المنفى المادي في فرنسا مدة تزيد عن ثلاثين سنة، لكن ما كان يوجعه هو المنفى الداخلي.. ذاك الذي كان يشعره بالاغتراب في وسطٍ يتخلى عن مقوماته ومؤهلاته، ليلهث وراء إملاءات الآخرين، ويفضل المبسط والسطحي على الجوهر، وينبهر بالأضواء الساطعة والخادعة. وربما اختار المليح هذا المنفى الذاتي بعد واقعة التقرير الشهير الذي كتبه عن مهمته الحزبية في بولونيا، وتنديده بسياسات ستالين- وهي الواقعة التي كانت وراء طرده من الحزب الشيوعي المغربي.

بالعودة إلى السؤال الوارد في عنوان هذه المقالة، سنجد أن المجرى الثابت- هذه الاستعارة المعبرة التي اختارها عنوانا لروايته الأولى- يتمثل في هذا الاغتراب، إذا تأملنا بعمق أبعاد كل هذه القضايا الشائكة التي خاض فيها المليح، إما كتابة أو تدريسا أو نضالا. لقد اختار أن يبقى على هامش الجماعة، بإجماعها الزائف، حتى لا يخون قناعاته الفكرية والسياسية، ولا يجانب الحقيقة، كما يؤمن بها ويطبقها في حياته. لكن هذا المجرى الثابت ظل، وسيبقى، منسابا متدفقا بين التاريخ والذاكرة، بين السياسة والمقاومة، بين الأدب والفن… ماؤه الكلمات التي تعبر عن الحقيقة، وتنتقد السلطة، كيفما كانت، ولا تهادنها، وتشق مسلكا، ولو كان صغيرا، وسط غابات الظلم والقمع والجهل والتضليل، نحو أفق مشرق.

حسنا فعل الكاتب عبد جويطي، ودار النشر فالية، وهما ينشران كتاب ‘مربي الكلمات’، لأنهما يستعيدان بذلك كاتبا متفردا في زمن كثرت فيه رياضات الهرولة والتهافت والتصهين. نتمنى أن يبادر من أنشؤوا مؤسسة إدمون عمران المليح إلى استعادة هذا المشروع الثقافي، لأن المرحلة الراهنة تحتاج إلى أفكاره، وأفكار غيره من الأدباء والمفكرين الوطنيين، لمقاومة هذا السيل الهادر الرامي إلى تجريف الوعي وتسطيح الثقافة المغربية، بكافة أشكالها التعبيرية.