كارنفال الفساد السياسي
كتبت قبل نحو عشرة أشهر، مقالا بعنوان “رقصة الفساد”، بناء على مضامين وخلاصات التقرير السنوي الأول للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. كان ذلك التقرير صادما من حيث رصده تدهور جل المؤشرات التي يقاس بها مستوى الفساد في الدول، وبالنظر إلى الطابع المركب الذي يتخذه الفساد في الحالة المغربية.
أما اليوم، وبعد صدور التقرير الثاني للهيئة، وهو الذي يغطي سنة 2023 بالكامل بعدما كان التقرير السابق يغطي جزءا من سنة 2022، فإننا أمام إقرار رسمي وموثّق بسيطرة الفساد على مفاصل الدولة والمجتمع، وانتقاله من الرقصة الواحدة إلى رقصات متعددة، ما يجعلنا أمام كارنفال كبير للفساد.
العنوان الأبرز لهذا الكرنفال هو تركيز جل مظاهر الفساد في التركيبة السياسية السائدة والمسيطرة حاليا، سواء حكوميا أو برلمانيا، حيث تفاقم الربط عند عموم المغاربة بين الفساد وأعضاء المؤسسة التشريعية، البرلمان، وقد يكون ذلك بفعل تواتر حالات المتابعة القضائية والإدانة الجنائية والعزل من المنصب في صفوف ممثلي الأمة.
كما سجّلت السلطة التنفيذية، أي الحكومة، تدهورا مماثلا في وضعيتها من حيث شيوع الفساد، وبات رئيس الحكومة الحالي، عزيز أخنوش، في موقع شبهة جديدة، بعدما حال دون عقد أي اجتماع للجنة الوطنية لمكافحة الفساد، التي يعتبر رئيسا لها، كما صمّ آذانه عن نداءات الهيئة التي يرأسها محمد بشير الراشدي، بمراجعة المرسوم الخاص باللجنة، حتى يمكنها أن تباشر مهامها وتوقف النزيف.
يخبرنا التقرير الجديد الذي قدّمته الهيئة صباح الثلاثاء 8 أكتوبر 2024 في ندوة صحافية أن الفساد أضحى يمثل واقعا بنيويا يعمق الفجوة بين الواقع من جهة، وبين التزامات السلطات المغربية قي مجال الوقاية من الرشوة ومحاربتها والجهود المبذولة في هذا الاتجاه من طرف مختلف الهيئات والمؤسسات الوطنية من جهة أخرى.
وتضع الهيئة أصبعها مباشرة على موقع الداء، حيث قامت باستقراء بعض المؤشرات غير المباشرة، ليتأكد لها تراجع المغرب على مستوى مؤشر الفساد السياسي الذي يصدره مشروع أنماط الديمقراطية V-DEM، وتراجعه على مستوى المؤشرين المتعلقين بتطبيق القانون والحكومة المنفتحة المتفرعين عن مؤشر سيادة القانون الذي يصدره مشروع العدالة العالمي، وكذا تراجعه في المؤشرات الفرعية المتعلقة باستقلال القضاء وحرية الصحافة وبالخدمات على الأنترنيت، والمنبثقة عن مؤشر النزاهة العمومية الذي يصدره مركز الأبحاث الأوروبي لمكافحة الفساد وبناء الدولة.
فمن خلال مؤشر الفساد السياسي الذي يصدره مشروع أنماط الديمقراطية، والذي يتم استخلاصه من خلال احتساب متوسط مؤشرات الفساد في القطاع العام، والفساد التنفيذي، والفساد التشريعي، والفساد القضائي ومؤشر الفساد العام؛ يتبيّن أن تنقيط المغرب تراجع على مستوى ثلاثة مؤشرات من أصل أربعة، برسم النتائج التي تم نشرها في 2023.
وهكذا فقد المغرب 16 نقطة في مؤشر الفساد في السلطة التنفيذية مقارنة بسنة 2020، مسجلا تراجعا ب25 رتبة ليحتل الرتبة 118 عالميا. أما مؤشر الفساد في السلطة التشريعية، فسجّل بدوره تراجع تنقيط المغرب ب13 نقطة مقارنة مع سنة 2020، كما فقد 16 رتبة، وانتقل من الرتبة 90 إلى الرتبة 106.
ولم تسلم السلطة القضائية من هذا المنحى التراجعي، حيث فقد المغرب 21 نقطة في مؤشر الفساد في السلطة القضائية، مقارنة مع 2020، وتراجع ترتيبه من 93 سنة 2020 إلى الرتبة 106 سنة 2023.
وفيما استقر وضع المغرب في مؤشر الفساد العام، تكون نتيجة المؤشرات الأربعة تدحرج المغرب في مؤشر الفساد السياسي من الرتبة 102 إلى الرتبة 105.
لم تخرج نتائج باقي المؤشرات التي تضمن تقرير الهيئة عن هذه القاعدة. وفي مؤشر سيادة القانون الذي يصدره مشروع العدالة العالمية (WJP)، تراجع تنقيط المغرب في المؤشر الفرعي الخاص باستغلال المسؤولين الحكوميين في السلطة التشريعية لوظائفهم لتحقيق مكاسب شخصية، في مقابل تقدم المؤشرين الفرعيين المتعلقين بكل من المسؤولين القضائيين والمسؤولين الأمنيين والعسكريين، واستقرار المؤشر الفرعي الخاص بمسؤولي السلطة التنفيذية.
وتخلص الوثيقة نفسها إلى أن التراجعات المسجلة في مؤشرات الفساد السياسي والفعالية القضائية ونزاهة الحكومة وتطبيق القانون والحرية الاقتصادية وحرية الصحافة والحكومة المنفتحة، تؤكد الترابطات الموضوعية بين منظومة الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبين تنامي الفساد، الأمر الذي يؤثر حتما، حسب التقرير، على مبدأ تكافؤ الفرص وعلى المساواة في الولوج إلى وسائل الإنتاج، ويؤدي إلى حصر تراكم الدخل وفرص خلق الثروة على فئة قليلة من المجتمع، ويساهم في توسيع دائرة اقتصاد الريع، وتناسل مظاهر الاقتصاد الخفي.
لم يتردد رئيس الهيئة في انتقاد ما ذهب إليه مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي اعتمدته الحكومة مؤخرا، من منع للجمعيات من التبليغ عن الفساد، مجددا نداءه بإصدار قانون يجرّم الإثراء غير المشروع.
ونبّهت الهيئة في تقريرها السنوي الجديد، في سياق استعراض معطيات المحاكم المالية، إلى الإشكالية المتعلقة بمحدودية التوصل بطلبات في شأن القضايا ذات الصلة بالتأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، من قبل السلطات المخول لها إحالة القضايا على هذه المحاكم.
وفي الوقت الذي يحصر مشروع قانون المسطرة الجنائية وسائل تحريك الدعوى في ملفات الفساد في أطراف إدارية ورسمية، ينقل التقرير الجديد عن المجلس الأعلى للحسابات، قوله إن جميع القضايا المرفوعة أمامه خلال سنة 2022 وإلى حدود نهاية أكتوبر 2023، كان مصدرها سلطات داخلية بالمحاكم المالية، في حين أن القضايا التي رفعتها النيابة العامة لدى المجالس الجهوية للحسابات في مادة التأديب المتعلق بالميزانية، شكلت فيها الطلبات المرفوعة من طرف وزارة الداخلية 13 في المئة فقط، من إجمالي الطلبات المرفوعة إلى هذه المجالس.
أي أن المعطيات الحالية تنبئنا من الآن بمستقبل أكثر ازدهارا للفساد، وقد نجد أنفسنا في تقرير مقبل مع “ستريبتيز الفساد” بعدما بدأت القصة بمجرد رقصة.