عبد الحي المودن وسلاح التخييل بمواجهة خفايا السياسة
تحدث السياسة في السر، خلف الكواليس والأستار، بقدر ما تحدث في العلن أو ربما بقدر أكبر، لكن الباحث في علم السياسة، خاصة في التقليد الجامعي المغربي، لم يزل يسعى لفهم مغاليقها بمقاربات ومناهج لا تسعف كثيرا في النفاذ إلى أعماقها الخفية، ما يستدعي قدرا من التخييل.
يدافع المفكر المغربي عبد الحي المودن عن هذه الفكرة أي “التخييل في السياسة” التي سينطلق منها بعض زملاءه لتأليف كتاب جماعي بعنوان “السياسة والتخييل” يضم مقالات كتبتها نخبة من الأقلام الجامعية المغربية والأجنبية تقارب المواضيع التي انشغل بها الباحث.
وفي اللقاء الذي خصص لتقديم هذا العمل الجماعي، يوم الأربعاء 4 أكتوبر 2023، قال المودن إن “العنوان الذي أعطي لهذا الكتاب (السياسة والتخييل) كان سيبدو غريبا عندما شرع في تدريس السياسة كموضوع أكاديمي في كلياتنا منذ ما يناهز نصف قرن”.
وبرر سبب الغرابة ب”أن فهم السياسة لم يكن يعتبر وقتها أنه في حاجة لكي يُربط بالخيال بقدر حاجته إلى تطبيق للمناهج العلمية، والتي كلما كان تطبيقها صارما تمكنت بالإمساك بخيوط السياسة وأسرارها، وكلما ساهمت في الدفع بالتغيير السياسي الذي اختلف تحديد معناه وأهدافه حسب التوجهات السياسية الفكرية لأصحابها”.
مفاجآت السياسة
وذكّر أستاذ علم السياسة المغربي بأن “أحد التحديات الرئيسية التي ظل يواجهها فهم السياسة في المغرب هي قدرة النظام السياسي على ضمان استمراريته بالرغم من التحولات البنيوية التي يعيشها على المستوى السوسيو- اقتصادي وعلى مستوى تشكل معارضات جديدة، وبالرغم من الأحداث السريعة والمباغتة التي تفاجئ صناع القرار وتستدعي ردود فعل عاجلة”.
“لقد عالجت عدد من نصوص الكتاب هذ القضايا وفسرت استمرارية النظام السياسي المغربي على ضوء الأطروحات النظرية حول الموضوع، وعلى ضوء قراءات نقدية لها استنادا إلى المستجدات الميدانية”، يقول المودن داعيا إلى توسيع الرؤية للظفر بأجوبة أعمق.
“عندما نوسع مفهوم السياسة ليشمل ليس فقط قدرة الدولة على التأثير والسيطرة والتحكم، بل أيضا أدوات ووسائل المجتمع للمقاومة، فإن ذلك يستدعى البحث عن مداخل للنفوذ لهذا الشكل من التعبير السياسي”.
“إن الاستنتاجات التي توصلت إليها العديد من الدراسات هي عدم تمكن المقاومات من إحداث التغيير المنشود، وتمكن الدولة بوسائل عديدة تراوحت ما بين القمع أو الاستقطاب إلى استيعاب هذه المقاومة أو تهميشها”.
لكن بالرغم من ذلك، يواصل المودن، “فجل التوجهات تعتبر أن عالم السياسة لا يخلو من المفاجآت الشيء الذي يستدعي عدم الاطمئنان إلى هذه الخلاصات، بل تتطلب اعتبارها حالات مؤقتة قابلة لتغيرات محتملة”.
أسرار السلطة
تبعا لذلك، يرى المودن أن المفاجآت ترتبط بأسرار السياسة وتستدعي من ثم موضوع “الخيال على مستوى الدولة، فإن إحدى وسائل تدبير سلطتها هي الحفاظ على أسرارها بل وكما هو الشأن في حالة الحروب تتعمد الإعلان عن معلومات خاطئة عنها وعن نواياها ونفس الأمر ينطبق على مستوى مقاومات السلطة”.
هذا الوضع السري لجوانب من سياسة الدولة يجعل الباحث في السياسة، بنظر الكاتب، “يتلمس خطاه اعتمادا على معلومات نادرة وفي بعض الأحيان على معطيات مضللة. وهو ما يدفع البعض إلى اعتبار أن السياسة عالم الكذب والخداع والتزييف”.
يؤكد مؤلف “خطبة الوداع” رغم ذلك أن “مقاريات متعددة، كما عكست نصوص كتاب “السياسة والتخييل”، تمت بلورتها لتجاوز هذه الصعوبات اعتمادا على مناهج من تخصصات متعددة في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية والآداب”.
المادة السوداء
ويميّز أستاذ علم السياسة المغربي بين الجوانب المخفية عمدا في السياسة وتلك المستترة دون قصد، قائلا: “بالإضافة إلى المعلومات المخفية عمدا في السياسة، هناك جوانب من السياسة تبقى غير مرئية، أو مجهولة، ومستترة، تم التعبير عنها من خلال مفاهيم تمت بلورتها في سياق دراسات أنجزت في دول غير المغرب”.
ومن أمثلة هذه التعبيرات التي يسوقها المودن “الأسلحة السرية للضعفاء لجيمس سكوت، أو الزحف الصامت للمواطنين العاديين، وهي أشكال من المقاومة السرية غير المعلنة تمارس في الحياة اليومية للبحث عن طرق لتحقيق مصالح الفقراء”.
وتتم ممارسة هذه الأشكال من المقاومة”بواسطة التحايل على القوانين وتجاوزها، أو مفهوم المادة السوداء، وهي ذلك الجزء الخفي من الكون، والذي يعترف متبني هذا المفهوم بأن له مقابلا في عالم السياسة”.
فتح المجال للخيال
من الحجج الإضافية التي يعضد به المودن دعوته للتخييل في السياسة توجهات عالم اليوم ومن أبرزها ما تسميه الباحثة “شوشانا زوبوف بمرحلة رأسمالية المراقبة، والتي تعني تملك شركات كبرى لقواعد بيانات ضخمة تقوم على تجميع المعطيات وتحليلها وتوظيفها عمليا بشكل مكثف لأغراض تجارية وسياسية”.
ويعتبر المفكر المغربي أن “السرية الشديدة التي تطبع رأسمالية المراقبة تفتح المجال في وجه استعمال الخيال لتصور قدراتها على التحكم وعلى ضبط المعارضين والتحكم في تحركاتهم، والسعي لإفشال مقاوماتهم”.
صداقة تتحدى الظرفيات
وساهم في كتاب “السياسة والتخييل” 30 باحثا وباحثة بمقالات تتصل مواضيعها بالاهتمامات العلمية والإبداعية لعبد الحي المودن، من بينهم محمد الطوزي وعبد الفتاح كيليطو وأحمد بوز وعبد الأحد السبتي والعربي الجعيدي وإدريس اكسيسكس وسعاد إداودة وسوزان سليموفيتش.
وقال عبد الأحد السبتي، في كلمة باسم منسقي الكتاب، إن “تأليف كتاب جماعي يمثل بصمة نوعية في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية بالمغرب ودلالة على ثقافة الاعتراف والاعتزاز والصداقة بما تعنيه من علاقة تتحدى التصنيف وتتعارض مع هاجس الظرفيات والرهانات”.
وذكّر بأن المودن زاوج بين دراسة الحقل السياسي المغربي وسياسة الدولة من منظور الدمقرطة واستراتيجيات الهيمنة وعلاقة الأحاسيس في السياسة وعلاقة التخييل بالسياسة كفعل سياسي ونافذة لفهم التطورات السياسية.
أمنية السبتي
واعتبر السبتي أن “هناك حاجة لتوسيع دائرة قراءة أعمال عبد الحي المودن، عبر ثلاثة أوراش تحتاج إلى الانتقال للإنجاز: الأول تعريب ونشر أطروحة عبد الحي المودن بالنظر إلى أنها ما زالت لها راهنية ، والثاني نشر أعمال متفرقة التي نلتقي بها في السيرة المفصلة التي تتوسط الكتاب”.
أما الورش الثالث فيتصل بأمنية تقاسمها السبتي مع حضور اللقاء: “أن يقتطع عبد الحي الوقت المناسب لاستكمال كتاب يخامره ويشغله من سنوات عديدة حول موضوع “الدولة ومسألة العنف”.
وفي كلمة حول الكتاب، قالت أستاذة القانون العام، أمينة المسعودي، إن هذه “الأعمال المهداة تسائل انشغالات عبد الحي المودن واهتماماته العلمية وحضور الباحث وقد كتبت بلغات ثلاث، واستغرقت ثلاث سنوات”.
وشارك في تنسيق كتاب “السياسة والتخييل” إلى جانب السبتي، الطيب بلغازي وأحمد بوحسن وإدريس كسيكس وجواد النوحي وعادل موساوي.
ابن المدرسة الأنجلوساكسونية
وحصل عبد الحي المودن على الدكتوراه من جامعة ميشيغان الأمريكية سنة 1987 حول موضوع “التنمية المالتوسية: النمو الاقتصادي والضعف السياسي للبرجوازية الصناعية المغربية”، وحصل قبلها على ماجيستير في العلوم السياسية من جامعة غرب فلوريدا.
وعمل المودن، المولود بوزان سنة 1953، أستاذا جامعيا للعلوم السياسية والعلاقات الدولية بالمغرب والولايات المتحدة، كما أشرف على قطب الدراسات بهيأة الإنصاف والمصالحة وساهم في تأسيس “وحدة حفظ الذاكرة والنهوض بالتاريخ المغربي” بالمجلس، وأسس ماستر تاريخ الزمن الراهن (توقف) بكلية أكدال التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط.
كما ألف عبد الحي المودن روايتين أولى بعنوان “فراق في طنجة” (1996) وثانية بعنوان “خطبة الوداع” (2003).