احتفالات المولد في الشام.. تنميط رسمي وتلقائية شعبية
نشر الباحث “توماس بييريه” في العام 2012، ضمن كتاب جماعي أصدرته جامعة “إدنبرة” الاسكتلاندية، دراسة مطولة حول الاحتفال بالمولد النبوي في المدن السورية في علاقة بسلطة العلماء.
اهتمت هذه الدراسة برصد الاحتفال بالمولد النبوي في العاصمة السورية دمشق، من طرف العلماء، خلافا للدراسات المعتادة التي تنظر إلى الموضوع من زاوية الاحتفال الشعبي.
تبدأ الدراسة بوصف تفصيلي لاحتفالات المولد النبوي في دمشق، التي تدوم قرابة ستة أسابيع ابتداءً من يوم 12 ربيع الأول من كل عام. وتشمل هذه الاحتفالات تزيين المساجد بالمصابيح الملونة، ورفع الأعلام باللونين الأحمر والأخضر، مع تنظيم الحفلات (الموالد) يوميًا في المساجد، حيث تجذب بعضها ما يصل إلى خمسة آلاف مشارك.
بعد صلاة العشاء، تبدأ الاحتفالات التي تدوم حوالي أربع ساعات، حيث يتجمع الرجال والنساء بشكل منفصل، ويتم تقديم المياه والقهوة العربية مع بعض الفواكه الجافة كجزء من الضيافة.
تتميز تلك الاحتفالات بالإنشاد الجماعي للأمداح النبوية، كما تؤدي فرق مختصة هذه الأناشيد دون استخدام آلات موسيقية، باستثناء الدفوف.
يحضر كبار العلماء والشيوخ تلك الموالد، ويعطونها طابعًا وقورًا، يعزز من طابعها الروحي. وخلال فترات استراحة المنشدين، يُلقي العلماء مواعظ دينية تهدف إلى ترسيخ القيم الإسلامية، وتشجيع المسلمين على الالتزام بمكارم الأخلاق ووحدة الصف.
وتشير الدراسة إلى أن الحاضرين، غالبًا ما يظلون هادئين ومتأملين، يقتصر دورهم على الدعاء الجماعي الذي يختتم به الحفل. وعلى الرغم من هذا الالتزام الصارم، تكشف الدراسة عن دافع آخر لبعض الحضور، حيث يأتي البعض للاستماع إلى الأناشيد فقط، دون اكتراث كبير بخطب العلماء. ويُستدل على ذلك من خلال بيع الأقراص المضغوطة التي توثق هذه الحفلات، وقد اقتطعت منها الأجزاء الخاصة بالدروس والمواعظ.
تشير الدراسة إلى أن السلطات السورية سمحت منذ عام 2007 بتنظيم بعض الموالد في الهواء الطلق بعيدًا عن المساجد.
وتمتاز هذه الاحتفالات الشعبية بقدر أكبر من الحرية، حيث يُتاح للحاضرين مشاركة المنشدين أجواء الاحتفال من خلال التفاعل المباشر، مثل التلويح بالأيدي وترديد الأناشيد. كما شهدت بعض هذه الموالد عروضًا للدراويش، مما أضفى عليها طابعًا أكثر شعبية وتحررًا مقارنة بالحفلات التي تُقام في المساجد.
وعلى الرغم من السماح ببعض مظاهر الاحتفال الشعبية، تسجل الدراسة استمرار صراع غير معلن بين الاحتفالات الرسمية الصارمة التي تُنظم داخل المساجد برعاية الدولة، والمظاهر الشعبية التي تمثل روح التلقائية والحرية، كما هو الحال في “خميس المشايخ” بمنطقة حمص.
وتلاحظ الدراسة أن السلطات البعثية، التي تبنت سياسة صارمة لتوحيد المجتمع السوري وتنميطه، منعت بعض التقاليد الشعبية للحفاظ على الطابع الرسمي للاحتفالات.
وتخلص الدراسة إلى أن الاحتفالات بالمولد النبوي تظل مناسبة تجمع المسلمين حول شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يُعتبر “الشخصية المؤسسة” للدين الإسلامي.
كما تعتبر هذه الاحتفالات وسيلة لتعزيز الدعوة إلى الإسلام وتعزيز القيم الدينية، بالإضافة إلى التأكيد على أهمية الوحدة الإسلامية عبر تذكر هذه المناسبة الدينية المهمة.