الأيوبيون.. جسر نقل ذكرى المولد النبوي إلى الدائرة السنّية
بعدما حقّق الفاطميون، الشيعة، سبق تحويل ذكرى المولد النبوي إلى احتفال رسمي نهاية القرن الرابع الهجري في مصر، سعى الأيوبيون من خلال صلاح الدين الأيوبي وخلفائه بعد استيلائهم على مصر، إلى طمس أي أثر للفاطميين. ولم يكن الاحتفال بالمولد النبوي استثناءً في هذا السياق.
فصلاح الدين الأيوبي، الذي أطاح بالحكم الفاطمي الشيعي وأعاد مصر إلى المذهب السني، رأى في الاحتفالات التي أقرها الفاطميون قبله، بما في ذلك المولد النبوي، أداة سياسية تهدد نفوذه، مما دفعه لحظر هذه المناسبات، خاصة تلك التي روجت لفكرة ولاية آل البيت، حيث اعتبرها وسيلة لاستمالة العاطفة الشعبية تجاه الفاطميين.
ورغم تلك المحاولات، إلا أن هذه الاحتفالات بذكرى المولد النبوي لم تختفِ تمامًا، بل انتقلت عبر طرق غير رسمية إلى مناطق خارج سيطرة الأيوبيين.
هنا يظهر دور الملك مظفر الدين كوكبوري، حاكم إربيل في منطقة كردستان، والذي أعاد إحياء الاحتفال بالمولد النبوي، لكن هذه المرة في سياق سني مختلف.
وعلى الرغم من أنه كان قريبًا لصلاح الدين الأيوبي عبر زواجه من ربيعة خاتون، أخت صلاح الدين، إلا أنه اختار تبني هذه المناسبة كجزء من استقلالية مشروعه السياسي الخاص.
أصبح الاحتفال بذكرى المولد النبوي في إربيل، في عهد كوكبوري منتصف القرن السادس للهجرة، حدثًا سنويًا فخمًا يجذب إليه الجموع من مختلف المناطق، مثل بغداد والموصل وسنجار.
وكان لهذا الاحتفال تأثير كبير على تعظيم نفوذ كوكبوري، حيث استخدم هذه المناسبة الدينية كوسيلة لجذب التأييد الشعبي وتوسيع نطاق تأثيره السياسي.
ويسجّل المؤرخون، مثل الذهبي وابن خلكان، تفاصيل دقيقة عن حجم الاحتفالات بالمولد النبوي في إربيل، والتي تميزت بالبذخ الشديد وتوزيع الهدايا والأطعمة، مما جعلها أكثر من مجرد حدث ديني، بل مهرجانًا اجتماعيًا ضخمًا يثبّت الولاء للحاكم.
أما في مصر، وبعد نهاية حكم الأيوبيين، تولى المماليك السلطة ووجدوا في الاحتفال بالمولد النبوي فرصة لتعزيز شرعيتهم أيضًا. فالسلاطين المماليك، الذين كانوا في الغالب جنودًا وافدين على البلاد، شعروا بغربة عن المحيط الاجتماعي والثقافي المصري، فتبنوا هذه الاحتفالات لكسب تأييد العامة.
ومن أبرز مظاهر هذه الحقبة، بناء “خيمة المولد” في القلعة، التي وضع أساسها السلطان قايتباي. وكانت هذه الخيمة ذات التصميم الفاخر والزخارف الدقيقة، تعكس الرغبة في التأثير على الناس وإظهار قوة الدولة عبر الفخامة.
وفي أواخر العصر المملوكي، تحولت الاحتفالات بالمولد النبوي إلى مهرجانات فخمة يتبارى فيها السلاطين في البذخ والإنفاق. كما كان هذا الاحتفال فرصة للسلطان لإظهار قدرته على تلبية احتياجات المجتمع والتقرب منه، وفي الوقت نفسه إظهار القوة أمام النخب الحاكمة.
وقد نقل المؤرخون شهاداتهم على هذه المظاهر الاحتفالية التي شهدت عرضاً للأطعمة والهدايا، مما جعل هذه المناسبة تتجاوز الطابع الديني لتصبح رمزًا سياسيًا يعزز مكانة السلطان في أعين شعبه.