عبد الإله المنصوري يكتب.. حين طاردنا القائد إسماعيل هنية حتى استشهاده
التقيت الشهيد إسماعيل هنية أكثر من مرة، على هامش مؤتمرات انعقدت على الصعيد العربي، سواء تعلق الأمر بالمؤتمر القومي العربي أو بالمؤتمر القومي الإسلامي أو بالمؤتمرات العربية العامة التي عقدت غالبا انتصارا للمقاومة في فلسطين أو لقضايا مرتبطة بها تتعلق باعتداءات شنها كيان الاحتلال الوحشي على لبنان أو فلسطين أو احتلال العراق من طرف رعاة الكيان في أمريكا وبريطانيا… ويعرف كل من التقى الرجل خفة ظله وتواضعه وشخصيته التوفيقية والوحدوية وخطابه التجميعي، وكيف يمر اللقاء معه في أجواء جميلة لا يكتفي فيها الرجل بالحديث عن قضية فلسطين، بل تتجاذبه حكايا لطيفة وخفيفة عن تجارب وشخصيات تشعر فيها أنك أمام إنسان عركته التجارب وعلمته الحياة في دروبها ما قد لا يتعلمه آخرون منها بحكم التغريبة التي عاشها أهل فلسطين تهجيرا وتقتيلا ومقاومة وتضحيات حتى معركة طوفان الأقصى التي هزت كيان الاحتلال وألقت على الشهيد إسماعيل هنية عبئا تنوء بحمله الجبال، ليجد الرجل نفسه متقدما ركب المقاومة في معركة تاريخية غيرت وجه العالم كله.
في سياق هذه المعركة وقعت تحولات في الرأي العام العالمي امتدت لتحفر عميقا حتى على مستوى صناع القرار في مراكزه الرأسمالية الغربية خاصة.. وهي قصة طويلة تستحق أن تحكى.. لكن ما يهمني في الموضوع هو التحول الذي عرفته إسبانيا بتأثير من هذه المعركة، ليتحول من مجرد دعم شعبي جارف إلى قرار رسمي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية والانخراط في الدعوى التي أقامتها جنوب إفريقيا في إطار محكمة العدل الدولية ضد كيان الاحتلال والإبادة الجماعية في فلسطين المحتلة. لتصبح إسبانيا قائدة لمحور أوروبي يدعو إلى ضرورة الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني دون تأخر أو تلكؤ.
وكان للإعلام التقدمي الإسباني دور في هذا التحول، حيث كانت جريدة الباييس وما تزال حاملة لتغطيات فاضحة لجرائم الاحتلال ومحتضنة للآراء المدافعة عن فلسطين ومستضيفة لرموز العمل من أجل ذلك داخل إسبانيا وخارجه.. التقط الزميل أنس بن صالح اللحظة وفاتحني في موضوع حوار لجريدة الباييس برفقة زميل إسباني من طاقم التحرير مع الأستاذ إسماعيل هنية، فأخبرته أنه يمكن ترتيب الأمر مع بعض الأصدقاء في محيطه تفاديا للاتصال المباشر مع الرجل الذي أصبح في واجهة الحدث العالمي، يحقق أي إعلامي سبقا وإنجازا بإجراء حوار معه. وكذلك كان رتبت الأمر مع الأستاذ موسى أبو مرزوق فكانت الموافقة المبدئية وعلينا انتظار بعض الترتيبات تتعلق بعودة الأستاذ هنية من زيارات مكوكية كان يقوم بها للقاهرة في سياق إدارة معركة المفاوضات مع مجرمي الحرب الصهاينة بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، أو من طهران في سياق حضور جنازة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي.. وكان التواصل الذي قربنا من ترتيب الحوار يومان قبل زيارة الشهيد هنية إلى طهران لحضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب حيث تم إرسال أسماء الصحفيين وفقرة تتضمن محاور اللقاء، وكنا في انتظار عودة هنية إلى الدوحة لإنجاز الحوار.
وكم كانت صدمتي كبيرة حين وصلني خبر استشهاد القائد هنية في طهران وأنا في مطار الدوحة أودع بعض الضيوف. لم أصدق الخبر وكان الوجوم سيد الموقف. كان أول من حولت له الخبر زميلنا أنس.
لم يعد الحوار موضوعا للاهتمام الآن، بعد أربع ساعات وصلت إلى مقر العمل، كانت أجواء الإعداد لاحتجاج تضامني على استهداف الصهاينة للشهيدين الصحفي إسماعيل الغول ورامي الريفي المصور الذي ينحدر من عائلة مغربية ممتدة في فلسطين ويعود أصلها إلى منطقة تمسمان في الريف الشرقي للمغرب، وهي قصة تستحق أن تروى كذلك.
التقت عيناي بعيني زميلي أنس بن صالح.. انتهى كل شيء، قلت له.. فكان رده بصمت معبر يحمل دلالات أكثر من أي كلام.
كانت وسائل الإعلام تضج بجنازة الشهيد إسماعيل هنية المليونية في طهران، ومعها تم الإعلان عن أن جثمانه الطاهر سيوارى الثرى بالدوحة. لم يهدأ بالي في التفكير طيلة الوقت حينها، في وحشية الصهاينة وإجرامهم الذي لا حدود له. وكيف تحول التفكير من تنظيم لقاء صحفي تحقق من خلاله المقاومة في فلسطين إطلالة على الشعب الإسباني من خلال رمزها وقائدها إسماعيل هنية، إلى ترتيب حضور جنازته بالدوحة التي حضرها الآلاف من القطريين والعرب وغير العرب الذين حجوا للمسجد الأكبر في الدوحة مسجد محمد عبد الوهاب، تحت شمس حرارة لافحة تفوق الأربعين، حيث حج الناس شيبا وشبابا وأطفالا ونساء وأسرا من مختلف الأعمار. يحملون الكوفيات والأعلام الفلسطينية بشكل لافت. كان الطقس حارا جدا، حتى ان قنينة الماء أصبحت ساخنة في يدي بعد دقائق من مغادرتي السيارة التي كانت كثرة الزوار دافعا لي لركنها بعيدا عن المسجد بكيلومترين في وقت تكون الشمس قريبة من الأرض في شهر أغسطس بالبر الخليجي.
ورغم أن الخطيب ركز خطبته على فضل يوم الجمعة لكنه أفرد الشهيد إسماعيل هنية بخطبته الثانية، متحدثا عن قضية فلسطين وعدالتها وفضل الاستشهاد من أجلها.
بعد انتهاء صلاة الجمعة، كانت كلمة خالد مشعل قوية، حملت رسائل واضحة عن عملية الاغتيال وعن قيمة الشهيد القائد وعن رسالة الاستشهاد الني حملها قادة فلسطينيون كبار مثل عبد القادر الحسيني وعز الدين القسام وياسر عرفات وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي… والشعب الفلسطيني بمكوناته المختلفة..
بعد أبي الوليد تناول الكلمة عبد السلام إسماعيل هنية الذي تعرض لمحاولتي اغتيال مع والده أصيب إصابة خطيرة في إحداها، على أساس أن يصلي ويؤم صلاة الجنازة على والده ورفيقه وسيم أبو شعبان..
لكنه ألقى كلمة مركزة أعلن فيها فرحه باستشهاد والده وقبله عددا من إخوته وأبنائهم، وأنهم جزء من الشعب الفلسطيني يصيبهم ما يصيبه استهدافا وتهجيرا واغتيالا… واقترح أن يؤم الجنازة رفيق دربه خليل الحية وذاك ما كان.
لاحظ شاب كان بجانبي خارج المسجد، بلهجة مصرية طافحة، أنني لم أنزع حذائي لحظة الصلاة فاستفسر عن الأمر فأخبرته ان لا إشكال في الأمر. نظر إلي نظرة مرفقة بقليل من الاستغراب، لكنه ما لبث أن سحب قدمه من صندله التي تركها تحت قدميه ليؤدي صلاته.
ترددت داخل المسجد وخارجه حيث كان الآلاف، شعارات تنتصر للشهيد والاستشهاد “لا إله الا الله… والشهيد حبيب الله” يا شهيد ارتاح.. ارتاح سنواصل الكفاح” “بالروح بالدم نفديك يا شهيد”.. كان يرددها العرب وغير العرب بلكنة مكسرة وبحماس كبير.
كم كان المشهد جميلا ومذهلا حيث ترى أعلام فلسطين يرفعها مصلون من آسيا وإفريقيا ومن بلاد الغرب جنبا إلى جنب مع إخوانهم العرب، وكان التدثر بالكوفية الفلسطينية سمة الغالبية من الحاضرين.
أراد الاحتلال من اغتيال هنية توجيه ضربة للشعب الفلسطيني ومقاومته. لكن مشهد صلوات الجنازة عليه التي عمت أقطار الوطن العربي ومدن العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكارتا، ومن غانا على فرغانة، وتجمعات للمهاجرين العرب والمسلمين عبر العالم من أوروبا وأمريكا حتى أستراليا.. وكذا تضامن أحرار العالم بتوجهاتهم السياسية والدينية المختلفة، كان مذهلا.
كما أن توحيده للمسلمين بمذاهبهم المتنوعة، وجه ضربة قوية لمشروعات التجزئة والتفتيت التي تنتهجها القوى الغربية وأداتها الوظيفية في المنطقة كيان الاحتلال الصهيوني. فما بين تشييعه المليوني في طهران وانتهاء بمرحلة تشييعه في الدوحة التي حضرها الآلاف كانت الرسالة واضحة لن نستسلم لمشروع الاحتلال في التجزئة والتفتيت والتقسيم.
دلالات وعبر لم تكن خافية على أذهان من حضروا ومن تابعوا، تحدث عنها بعض قادة المقاومة مساء في حفل العزاء الذي أقامته عائلة الشهيد في الدوحة، وكان هاجسي كيف سيكون اللقاء مع الأستاذ موسى أبو مرزوق.. سلمت على شخصيات حضرت خصيصا لتوديع الشهيد هنية، من قادة فصائل المقاومة الفلسطينية وقادتها الكبار، التي كانت تستقبل المعزين في صفوف ممتدة، وحين وصلت لتعزية الأستاذ موسى أبو مرزوق تبادلنا نظرات حزن معبرة وقفت فيها الدموع في مآقينا، قبل أن يعانقني قائلا سبقت الشهادة الحوار. لم تسعفنا الكلمات على مزيد من الكلام، واضطررت للتسليم على باقي الشخصيات حيث كان المئات ينتظرون دورهم للقيام بواجب العزاء.
طاردنا الرجل حوالي ثلاثة أشهر من أجل حوار صحفي، لكن الشهادة كانت أسبق. رحمه الله وأسكنه ديار الخالدين.