story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

هل سقط مفهوم الأمة؟

ص ص


في ظل الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين والكمون العربي المخيف تجاهها، يستطيع المرء أن يتساءل: هل ما يزال مفهوم ‘الأمة’ قائما بالفعل؟ ومن ثمة، هل ما تزال كل المفاهيم المرتبطة به، مثل القومية العربية والوطن العربي والجامعة العربية والتعاون العربي المشترك، تكتسي أي قيمة، مهما كانت دلالتها؟ وهل يقتصر هذا التساؤل على المستوى الرسمي، أم يطال حتى الطبقات الشعبية؟ وهل الأمر مجرد وعكة عابرة؟ أم أنه بات واقعا متجذرا لا دواء له؟
بالنظر إلى الإحجام عن التضامن الجماعي مع القضية الفلسطينية ومقاوميها وشعبها، وعن تجريم حرب الإبادة ضد الغزاوين، وعن الامتناع عن التحرك في المنظمات والمؤسسات الدولية لوضع حد للعربدة الصهيونية، وعن الالتحاق بالدعاوى المرفوعة في المحاكم الدولية ضد المجرمين الصهاينة والمتواطئين معهم من الأمريكيين والغربيين بصفة عامة، لا يسع المرء إلا أن يجيب بالقول إن مفهوم ‘الأمة’ انهار فعلا، ولم يعد للعرب أي جامع، مهما كانت طبيعته.
هل كان الأمر كذلك منذ عقود؟ أم أنه واقع طارئ نتيجة تحولات معينة جرت في المنطقة، دون أن نعمل على استشفاف طبيعتها ومحركاتها، وعلى توقع نتائجها؟ يفيد التأمل في تحولات العرب، منذ السبعينيات إلى اليوم، أن أسبابا كثيرة عجلت بهذا الانهيار المريع للحمة العربية. لا بد من الإشارة، في البداية، إلى أن الصراع في العالم العربي شهد انتقالا خطيرا لم يدرسه أغلب المحللين والخبراء العارفين بقضايا المنطقة وشؤونها دراسة عميقة. ذلك أن النزاعات العسكرية التي كانت تحصل بين بلدين (بين مصر واليمن، وبين المغرب والجزائر، وبين العراق وإيران، وبين العراق والكويت مثلا) تجري الآن داخل البلد الواحد. انطلق تجريب هذه الوصفة في لبنان خلال الحرب الأهلية، ليشهد تحقّقه المثالي في الجزائر في ما يعرف بـ’العشرية السوداء’، لتعمم بعد ذلك على كل من العراق وليبيا واليمن وسورية والسودان. وقد يأتي الدور على الباقين لاحقا، في حال أخفقت المقاومة في صد العربدة الصهيونية في فلسطين المحتلة.
لا شك أن الإمبريالية الغربية وحليفتها الصهيونية العالمية ظلتا تعملان، منذ حرب 1973، على مفاقمة الصدع العربي، من خلال دعم الانقلابات هنا وهناك، وتأبيد أنظمة الاستبداد، وتأزيم الأوضاع الاقتصادية والمالية في هذا البلد أو ذاك، الخ. ولأن هذه الوصفات بدت غير كافية، عمد الحليفان إلى العمل بـ’الفوضى الخلاقة’، إذ استقطبا المتطرفين من أقاصي الدنيا من أجل ترهيب الشعوب وإعادتها إلى عصور الحروب والفتن الطائفية. وقد نجحا في ذلك إلى حد كبير. كما تتبدى هذه السياسة من خلال فرض التطبيع على دول ظلت منيعة على هذه المشاريع كلها.
من ناحية أخرى، يبدو أن مفهوم الأمة، بوصفه رابطة جامعة بين دول المنطقة وشعوبها، تأثر كثيرا بالانتقالات المفاجئة على صعيد العواصم المؤثرة. في وقت سابق، كانت الرحال تشد إلى القاهرة ودمشق وبغداد، والرباط إلى حد ما، من أجل المشاورات واتخاذ القرارات وبناء الموقف العربي. وهذا معناه أن هذه العواصم تملكت نفوذا وقدرة على مقارعة المواقف الإقليمية والدولية، كان يقف وراءهما زعماء يتقنون جوهر اللعبة، وهي المناورة السياسية. ومع انتقال هذا النفوذ إلى عواصم جديدة في الخليج، لم تعد اللعبة كامنة في القدرة على المناورة السياسية، بل في توظيف المال. ربما كان بمقدور المال أن يكون مؤثرا في وقت سابق، كما حدث خلال حرب 1973، لكن ليس اليوم. بات هذا المال وثيق الصلة بالصناديق المالية العالمية الكبرى، ومرهونا بسياساتها التي تتحكم فيها الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية. ومن شأن كل موقف سياسي تجاه مشروعهما الكولونيالي أن يؤدي إلى تبخر هذا المال.
من نتائج هذا التحول ظهور نخبة مثقفين جدد أغراهم بريق المال؛ ومن ثمة، انخرطوا في مشروع اللَّبْرَلة، لكن من دون أن يتعمق هذا الانخراط في بلورة تصور مشروع جماعي. كما أنها لم تعِ خطورة المشروع الأمريكي- الصهيوني في المنطقة، إذ راحت تنظر لأهمية الالتحاق بالأسواق العالمية الحرة والانخراط في تيار العولمة والانضمام إلى اتفاقيات التبادل الحر، الخ. ولم تنتبه إلى آثار ذلك السلبية في الموقف السياسي والأيديولوجي المحلي من القضايا العربية.
وما يحسب لهذه النخبة، بما أنها باتت تملك المال والأدوات، هو نجاحها في إخراس الفكر القومي، في بعديه العروبي والاشتراكي، وكتم صوت التيار الإسلامي. كما يحسب له أيضا تعميم الفكرة القائلة بقبول الصهيوني ضمن المنظومة العربية، وتبرير ذلك بمقولات التنوع والتعدد والتعايش والتسامح، الخ. وربما لم تعِ هذه النخبة أنها كانت تساهم في تخريب مشروع الوحدة الحضارية التي ينبغي أن يقوم عليها أي حلم بتحديث الدول العربية وشعوبها، وباتت تقضي على أي محاولة لتحقيق التماسك والانسجام بينها، بما أنها تشتمل على مقومات تسمح بتأسيس قطب قادر على منافسة الأقطاب العالمية التي تتشكل الآن.