إطلاق صحافيين.. هل تتحرّر الصحافة؟
.. وتحقّق ما طالب به والتمسه صحافيون طيلة السنوات الأخيرة: الإفراج عن سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين وعمر الراضي، لتجتاح حالة من الفرح والإشادة بالعفو الملكي جزءا واسعا من الجسم الصحفي.
وأخيرا أُزيل حجرٌ مزعجٌ من حذاء الوطن، وأُزيحت أحمالٌ عن كاهل المغرب وصحافته، وقد انتصرت الحرية على السجن، والتعقّل على الانفعال، والتبصّر على عمى السلطوية.
من حقّ مُفرجٍ عنهم أن يكون أوّل تعليقهم عقب تجاوزهم أبواب السجن “شكرا جلالة الملك”، وقد كانت الذكرى الـ25 لجلوس محمد السادس على العرش لحظة انفراج وانتصارٍ للحكمة.
ما جرى بحُكْم التصحيح لوضعٍ متردٍ ومؤسف، وبحكم التجاوز للحظة محزنة في تاريخ الصحافة أدخلت الصحافيين في لحظة تَشَكُّك، وكانت إشاراتها بالغة السلبيّة والتشويش، إلى حدّ صار الصحافي “يخشى كلامه” وقد أصبح الطريق إلى السجن سيّاراً على ما استقرّ في نفوس الصحافيين والمدونين والنشطاء.
لحظة فرحٍ بما تقرّر في عيد العرش، بعد سنوات عجافٍ وتيهٍ.. لحظة تبعث الارتياح على أن المغرب قادرٌ.. وأن المغرب الجامع ممكنٌ.. وأن المغرب المتصالِح أنْفَذُ إلى النفوس من مغرب التخويف.
السنوات الأخيرة حبست الأنفاس بشأن نوايا وأفعال السلطة في علاقتها بالصحافة، بعد كثير محاكمات، وكثير ترتيبات في جسم الإعلام بتصعيدِ مؤسسات ووجوهٍ، وعبثٍ قانوني وسياسي بالمجلس الوطني للصحافة، وبروز خطابات منفلتة ومؤذية توسّعت في الانتهاك لأخلاقيات المهنة و”الفتك” باستغلال الصحافة نفسها لرجْم الصحافيين أنفسهم بسلاح التشهير.
وخلال السنوات الماضية، وبالتزامن، تسطّح الخطاب الإعلامي حتى أصبحنا “مسْخرة”، واصطبغ بلوْن واحد أغلب الأمر، حتى قلّ “القابضون على الجمر” ممنْ يكتبون من بناتِ أفكارهم ورأيهم، وفي بالِهم رقابة ذاتية ينازعونها وتنازعهم، ومخاوف لا تخفى في زمن “سوء فهم كبير” دفع المغرب ثمنه من صورته.
والآن، ما يشغل صحافيا مثلي هو أن يسأل: هل إطلاق الصحافيين عنوان مرحلة جديدة عنوانها الانفتاح، أم عفوٌ بمفاعيل لحظية، مع إبقاء أوضاع الصحافة على هشاشتها ومخاوفها وتشكّكها؟.
يهمني أن تكون اللحظة ملزمةً للدولة لإطلاق الصحافة من “أقفاصها”، وأن يكون قرار إطلاق صحافيين يعني تحرير الصحافة.
لا يستقيم أن يخرج صحافيون من السجن وتبقى الصحافة في أقفاص الرقابة الذاتية والخوف، والتوجيه والتحكّم بكل أنواعه.
سيكون مهما أن تقتنع الدولة أن الصحافة “رفيقٌ مزعج” في الطريق إلى الديمقراطية، لكنه ضروري لحماية المَسِير من التيه، ومن “قطّاع الطرق” ومِن غول السلطوية الكامن في كل سلطة.
سيكون مهما أن تقتنع الدولة أن كُلفةَ صحافةٍ حرّة، مهما عظُمت، أقل من تكاليف تعميم الخوف.
وسيكون مهما أيضا أن يستوعب عقل السلطة أن خطأ الصحافة في القوْل أفضل لبناء الوطن من أن تستغرق في الصمت.
الصحافة الجادة والحرّة شريكٌ، ولن تكون في بلد كالمغرب عدواً، وهي عنوان أساسي لفحص نوايا السلطة بشأن الدمقرطة..
ولا يمكن لصحافة بهذه المواصفات أن تؤذي أيّ مسارٍ ديمقراطي. بل إن الصحافة من أوائل ضحايا الانغلاقات والانسدادات الطارئة في أي مسار، مثلما أن الصحافة لا تعيش ولا تنتعش إلا في أجواء تضمن الحريات.
إن إطلاق الصحافيين المعتقلين إشارةٌ مهمة، وأعتقد أنه سيكون مفيدا استثمارها لإطلاق مزيد من الإشارات الإيجابية التي تفيد تأكيد “عدم العَوْد” إلى سجن الصحافيين على خلفية أداء مهامهم.
إطلاق الصحافيين حدثٌ وخبر سارٌ ويستحق الثناء، والأهم سيكون بعثُ مزيد من الرسائل أن الدولة تؤمن بأن إعلاماً مسؤولا ضرورةٌ حيوية للتطور، وأنها لا تنزعج من أن ترى وجهها في مرآة الصحافة بلا مساحيق تجميل، وأنها تستثمر في الحرية، ولا تسعى إلى أن يقبع في عقل كل صحافي شرطي أو سجّان يراجع معه كل حرف وكل كلمة قبل أن يكتبها.
الصحافة لا تكون صحافةً إلا إن تحرّرت من كل الرقابات التي تشدّها إلى أرض المُسَاومة على الحقيقة.