إسبانيا.. سر تفوق رياضي
شاءت الصدف أن يكون أمس الأحد يوما لتتويج الرياضة الإسبانية بلقبين كبيرين تحدث عنهما العالم بكثير من الإحترام والإعجاب والبحث في أسرار هذا التألق.
بعد منتصف اليوم توقف عشاق رياضة التنس في كل القارات الخمس مع مباراة حبست أنفاسهم التواقة إلى متعة هذه الرياضة، وكانت برسم نهائي بطولة ويمبلدون ثالث البطولات الأربع الكبرى لكرة المضرب، حيث جدد فيها الظاهرة الإسباني الشاب كارلوس ألكاراز الثالث عالميا، تفوقه على الصربي نوفاك جوكوفيتش الثاني، واحتفظ باللقب.
وفي المساء، اتجهت أنظار العالم إلى الملعب الأولمبي لمدينة برلين الألمانية، حيث نازل المنتخب الإسباني لكرة القدم نظيره الإنجليزي برسم نهاية كأس أمم أوربا 2024، وفاز عليه بالآداء والنتيجة بهدفين لهدف واحد بعدما قدم مردودا كبيرا طيلة مباريات البطولة ورشحه الجميع للظفر بها.
هذان التتويجان لم يكونا بالمطلق مفاجأة لجمهوري رياضتي التنس وكرة القدم، فإسبانيا ومنذ سنوات أصبحنا نجدها باستمرار فوق “البوديوم” في مختلف الرياضات أثناء المنافسات القارية والعالمية، بل وأضحت تضمن استمرارية حضورها منذ سنوات طويلة وبسلاسة فائقة تنم عن أن هناك مخططا وعملا قاعديا جبارا يتم القيام به على مستوى الدولة الإسبانية لبلوغ هذا المستوى وتحقيق هذه الإنجازات.
أمس كانت رياضتا كرة القدم والتنس وقبلهما رياضات كرة السلة وكرة اليد والسباحة والزوارق الشراعية والجمباز وألعاب القوى والدراجات والرياضات الميكانيكية والمائية والغولف وفنون الحرب وغيرها من الأنواع الرياضية حتى غير المعروفة منها لدى إسبانيا أبطال فيها ويفوزون بالميداليات والكؤوس العالمية.
هل تحقق لإسبانيا كل هذا بفعل ضربة حظ، أو فلتة من فلتات هذا الزمان؟ طبعا لا .. فكل شيء تم التخطيط له منذ استضافة الألعاب الأولمبية ببرشلونة سنة 1992 حتى يصبح للبلاد كل هذا التفوق في المستوى العالي للرياضة، وجاءت الإستراتيجية وفق مراحل تضع أهدافا على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وكان عصب هذه الدينامية هو المجلس الأعلى للرياضة التابع لوزارة التعليم والثقافة في الحكومة المركزية بمدريد.
تأسس المجلس وفق ظهير ملكي إسباني سنة 1977، وظل لسنوات هيأة شبه صورية لا تقوم بشيء حتى تقرر أن يكون للرياضة الإسبانية تفوقا عالميا، فتمت إعادة هيكلة المجلس بعد أولمبياد برشلونة وجعله قائدا لهذا المشروع العملاق، حيث توسعت صلاحياته أكثر لتشمل التنسيق بين الجامعات الرياضية وتوقيع الشراكات وعقد الأهداف معها، وتشجيع الرياضة المدرسية والجامعية، وتوجيه الحكومات الإقليمية للإعتناء بالشأن الرياضي على مستوى المدن والقرى والأحياء السكنية لضمان الحق الدستوري للمواطن في ممارسة الرياضة أولا، ثم ثانيا توسيع هامش الممارسة الإحترافية في كثير من الأنواع الرياضية، وزيادة عدد الرخص، بالإضافة إلى دعم البنية التحتية الرياضية من ملاعب وقاعات ومضامير ومسابح، واللوجيستيك عبر تزويد النوادي الصغيرة في الأحياء بالتجهيزات الرياضية.
المجلس الأعلى للرياضة في إسبانيا حاليا يشغل ما يقارب 200 إطارا عاليا للدولة في تخصصات التدبير الرياضي والمالية والمحاسبة، والمجالات التقنية الرياضية والبيداغوجية، وتبلغ ميزانيته السنوية 382 مليون أورو تذهب إلى الكثير من الجهات التي تهتم بالرياضة، أو التي تضطلع بالمسؤولية السياسية في المجالس المنتخبة، وذلك وفق آليات حكامة دقيقة، ورقابة صارمة للأجهزة القضائية.
إسبانيا تقطف اليوم ثمار مخطط رياضي حديث النشأة، ولا يُراكِم تاريخا طويلا، رغم أن الرياضة كممارسة شخصية هي ثقافة قديمة وراسخة عند المواطن الإسباني، إذ نحن نتحدث فقط عن 30 سنة ضاعفت فيها سرعتها لكي تصل إلى ما وصلت إليه، بفعل التخطيط والعمل التراكمي وعدم انتظار الفلتات من الموهوبين أو رياضيين نشؤوا وتكونوا في بلدان أخرى لكي يتم جلبهم وتزويق واجهة البلاد بهم، والإيحاء أن لديها منظومة رياضية متطورة عبر إنجازات ظرفية عابرة.